المكان والزمان، والإنسان

ثمة ألف طريقةٍ وطريقةٌ للحديث عن عُمان؛ فلقد كتب عنها جملةٌ من الرحَّالة عبر التاريخ؛ منهم من أنصفهم، ومنهم من خذلهم، شأن الحكم التاريخي الإنساني؛ لكنَّ عمان تبقى مستعصيةً على الوصف المدرسيِّ السطحيِّ، وتتأبـَّى على التشخيص الماديِّ الموضوعيِّ. عُمان، هي اللسان الصادق عن المكان، والصوت الجهور عن الزمان، والأنموذج النادر المثال عن الإنسان. فعُمان قصيَّة باعتبارٍ، لا يبلغ مداها إلاَّ من تعنَّى وتأنَّى، ثم لم يستعجل ولم يضجر؛ فهي هنالك كالملِك أو كالملاَك تجلسُ على عرشها بكبرياء مشروعٍ، لتنشر العدل بين الناس؛ وتقفُ في عليائها بطهر موفور، لتسوق العالمين إلى الخيرِ بأمر من الملك الجبار، سبحانه. فعُمان حين تطأ ترابها الزكيَّ؛ يبهُرك الزمان وقد تجمَّع فتحوَّل إلى نقطةٍ كالحنَّاء مرسومةٍ على راحةِ يدك؛ الماضي منه يلحق الحاضر وأحيانا يسبِقه؛ والمستقبل قد يتأخَّر عن الحاضر ودوما يرفُده؛ فتقرأ في "محراب مسجد المزارعة" بـِ"حارة العقر" في نزوى – مثلاً – جميعَ ما دوَّنه علماء هذا البلد الشهم الكريم، من لدن مازن بن غضوبة السعدي إلى المحقق الخليلي؛ وما بين ذلك وما بعد ذلك نور الدين السالمي وسماحة الشيخ الخليلي. لكن، تبقى القراءة الأمثل والأجدر لعُمان، هي التي تمرُّ عبر روح الإنسانِ، وتلج إلى أغوار عقله، ثم ترسو على صفحات قلبه، وتستنطق أخلاقه وشمائله المبهرة بتواضع جمٍّ، يهزأ من تواضع الزهَّاد والنسَّاك في منظومة التصوف عبر التاريخ؛ ذلك أنَّ عمان في حقيقتها هي الإنسان، وأنَّ الإنسان في أبهى صوره هو عمان؛ وجْهان لعُملة واحدة، وسرَّان للغز واحد. قد يختلف اثنان في شأنٍ من شؤون عمان، وقد يحسّنون أمرا أو يقبّحون أمرا؛ غير أنَّ جميع من كُتبت له آثار في أرض عمان الطاهرة، يلهج بلسانِ القلب والعقل، وبصوتِ الحقيقة والحق؛ أنَّ الإنسانَ في عمان ساحرٌ بخُلقه، جميلٌ بلُطفه، وديعٌ بصَمته، خفيفٌ بحركته... ما إن تلتقي بعمانيٍّ - أو عمانية - تبدأ بمراجعة ذاتِك ونفسِك؛ ثم تعرض بيئتَك، وإنسانَ بيئتِك، على هذا الملاك الأرضيّ، أو إن شئت فقل "على هذا الإنسان السماويّ". في زيارتي لعُمان هذه المرَّة، ولقد زرتها من قبل عدة مرَّات؛ استعادت جذورُ بُستاني حيويَّــتَها، وتشرَّبتْ من ماء الحياة ما شاء الله لها أن تتشرَّب؛ ثم أورقت فأزهرت وأثمرت؛ وإذا بي أولد من جديدٍ؛ وما ذلك بفعل حجر أو شجر، ولا بسبب عمارات أو عقارات؛ لكنَّ ذلكم كان من جهةِ الإنسان؛ وسيَّان عندي العالـِم والعاميُّ؛ فالخُلق الحليم فيهم سجيةٌ لا تكلُّفٌ، عادةٌ وعبادةٌ لا تمثيلٌ ولا تصنُّع؛ لكأنــَّهم هكذا ولِدوا، وهكذا عاشوا، وعلى هذا يموتون حين يموتون، ويُبعثون يوم يُبعثون. وإنَّ أخوف ما أخاف على عمان أن تصحِّرها المدنيةُ الرقطاءُ، وأن تحوّل الماديةُ الجوفاءُ أهلَها إلى أصنامٍ من لحمٍ ودمٍ؛ وأن تغزوهم الأفكار العبثية والسَّخافات الحداثية فيُهريقوا الدلاء التي يَرتشفون منها ماءَهم العذبَ الزلال، ويعقدوا آمالهم على سحابٍ سحاب، وعلى سرابٍ سراب. لكن، مهلاً؛ أليس الله ولي الذين آمنوا، والذين أحسنوا، والذين علموا وعملوا... فلا خوفٌ إذن؛ ما داموا يرضعون لِبان الإيمان من أثداء أمهاتهم؛ ويطعمون تمر الإسلام من النخيل التي غرسها آباؤهم؛ ويسيرون بخطوات وئيدة على ترابٍ داسته من قبلُ أرجُلٌ لم تمشِ إلاَّ إلى مساجد الله في الظلمات؛ ولم تهرول إلاَّ في حلبة الجهاد المبارك حين الملمَّات؛ ولم تتورَّم إلاَّ وقوفا لحرصِ ثغرٍ، أو بناءِ حصنٍ؛ وجلوسًا لخطِّ مسألة، أو قراءةِ آية، أو لسجدة لها أوَّلُ وليس لها من آخر. يا أهل عُمان، لكُم من الجزائر ألفُ تحيةٍ؛ من محبٍّ عاشقٍ، ومن مريدٍ هائمٍ؛ فتقبَّلوها هديةً إن شئتم، أو صدقةً بين يدي نجواي إن أردتم؛ لكنَّها يقينًا نبعَت من صدرٍ أضناه الهوى، وعقلٍ أعياه أمر الأمة فهوى، ثم راح يسيح في الأرض بحثا عن المعنى، علَّه يَهتدي إلى نبعه الثرِّ فيرتوي؛ وها قد أدرك ما أدرك، وفاته ما فات؛ ولكنَّ القليلَ من قِبلكم "لا يقال له قليل"؛ فأنتم أهل الفضل والكرم، وأنتم من يصدق فيه قول الحبيب المصطفى: "هم القوم لا يشقى جليسُهم". لا ... بلْ ... إنَّ أبا برزة الأسلمي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنـَّــــه بعث رجلاً إلى حيٍّ من أحياء العرب، فسبُّوه وضربُوه، فجاء إلى رسول الله فأخبره، فقال رسول عليه السلام: "لو أنَّ أهل عمان أتيتَ ما سبُّوك ولا ضربُوك". إي واللهِ...كلُّ شهادة عن عُمان، وعن إنسانِ عُمان، بعد شهادةِ رسول الله لا تعدو أن تكون هباءً تذروه الرياح، أو أنينًا أو رنينًا أو صِياح... فِداك روحي يا حبيب الله، وتحية من الفؤاد يا إنسانًا زكَّاه رسولُ الله...

علم الزمن والوقت

د. محمد موسى باباعمي

3/6/2023