عقيدة الوسام
الغياب والحضور، البقاء والفناء
د.محمد باباعمي
12/20/20251 min read


الفناءُ أصلٌ في الإنسان، والبقاءُ عارضٌ...
الغيابُ طبيعةٌ في الإنسان، والحضورُ اسثتناءٌ...
بقاءُ الإنسان محدودٌ بعمره القصير الذي كتب له، وحضوره رهينٌ بالزمان والمكان اللذيْن يشغلهما؛ فمدَّة بقائه إذا ما قورنت بمدَّة فنائه كانت كمثل الرقم بالنسبة للانهاية؛ وحضورُه في مكان معيَّن وفي زمان معيَّن، يعني غيابُه عن جميع الأمكنة وعن جميع الأزمنة الأخرى.
فالإنسان بلغة القرآن الكريم "يشغله شأنٍ عن شأنٍ"، أمَّا الله سبحانه وتعالى مطلقُ القدرة، الموصوف بأنَّه الأوَّل والآخر، الظاهر والباطن؛ "فلا يشغله شأنٍ عن شأنٍ"، ولا يحدُّه زمانٌ، ولا يأويه مكانٌ... تعالى في شأنه علوًّا كبيرًا "كان ولا مكان، وكان ولا زمان".
شاء الله تعالى أن أغيب عن حفل "وسام العالم الجزائر" هذا العام، في طبعته السادسة عشرة؛ لمهامّ شغلتني، ولشأنٍ اعترضني؛ فلم يكن الأمرُ هيّنًا على النفسِ، ولا سهلا على الفكرِ؛ باختصارٍ أقولها: "حُرمت بركة الوسام هذا العام".
غير أنَّني وجدتُ في الغياب أبعادا إيمانية لا حصر لها، منها:
أوَّلها الرضا بما قضى الله وقدَّر، فسبحان ربك "إنَّ ربَّك فعَّال لما يريد"، وتعالى ربي "إنَّ ربي لطيف لما يشاء"؛ وحلاوة الإيمان مشروطة بالرضَا ولا ريب، أمَّا الكفران فقرين بالسخط ولا شكّ.
وثانيها أنَّ غيابي لا يقدّم ولا يؤخّر، لا يضرُّ ولا ينفعُ، فبدوني تسيرُ الأمور أفضلُ من سيرها عند حضوري، ولا أحد يمكن أن يقال عنه: "إنَّه لا يُستغنى عنه".
وثالثها أنَّ التداول على المسؤولية ليس مجرَّد كلماتٍ تردَّد ولا شعاراتٍ ترفع، وإنما هي حقيقةٌ تُتعلَّم واجتهادٌ يكابَد.
ورابعها أنَّ النساءَ لم يعقُمن عن أن يلدن مَن يقود مسيرة الأمَّة، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد أخذ من "الفرعنة" بنصيب وأي نصيب.
وخامسُها أنَّ الشرط في الغياب يجب أن يكون طواعيةً لا قسرًا، ذلك أنَّ الغياب إذا جاء قهرًا لموتٍ أو مرضٍ، أو خلافٍ أو تفاهةٍ، فلا ينفع في رفع منسوب الوعي لدى الغائب ولا لدى المغيب عنه.
وسادسها أنَّ المستقبل رهينٌ بالحاضر، والحاضر ثمرةٌ للماضي؛ فالسماحةُ والعفوُ، والتقديرُ والتفويضُ، معانٍ تُزرع في بدايات الطريق، ولا يؤمل أن تنبت إذا ما زرعت في وسطه أو آخره.
ثم سابعها، وهي الأهمُّ، أنَّ الحضور الدائم الأبديَّ، والبقاء المطلق السرمديَّ، هو لله وحده؛ فهو الله في الأزل، وهو الله في الآن، وهو الله إلى الأبد؛ ولذا وجب أن نكل الأمر إليه، ونفوض الحكم إليه، ونعتقد النفعَ والضرَّ منه وحده، ولا نشرك أحدا – مهما كان، وكيفما كان – في أمر من أمورنا، حتى ولو في ربط شراك نعلٍ، أو ترقيع وخياطة ثوبٍ؛ ومن باب أولى في إدارة المشاريع والمؤسَّسات، وسوس الأمم والجماعات.
وأحمد الله تعالى أنَّ هذا الوعي، وهذه المعاني، باتت راسخةً في قلوب المحبين القائمين، وأنَّ هذه المبادئ والمنطلقات أضحت علامةً من علامات الوسام، وعقيدة من أصول الوسام: مكرِّمين ومكرَّمين، حضورا ومشاهدين... وهذه، وأيم الله، أعظم منَّة، وأكبر منحةً، من رب العالمين؛ فإن نحن تشبَّثنا بها بعَشْرِنا، وإن نحن عضضنا عليها بنواجذنا، وإن نحن تمسَّكنا بها في المنشَط والمكرَه... كانت لنا فتحا مبينا، وفرجا ومعينا، وترياقا وشفاء يقينًا.
حسبنا في كتاب الله تعالى قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَمَن يَهدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّضِلٍّۗ﴾.
ثم حسبنا من سنَّة الرسول ﷺ قوله للبراء بن عازب رضي الله عنه: "ألا أعلّمك كلماتٍ تقولها إذا أويت إلى فراشك؛ فإن متَّ من ليلتك متَّ على الفطرة، وإن أصبحتَ أصبحتَ وقد أصبت خيرا.
تقول: اللهمَّ أسلمت نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك؛ وألجأتُ ظهري إليكَ، لا ملجأَ ولا منجَى منك إلا إليك".
ويكفي الوسامَ وأهلَ الوسام، والمحبين للوسام والمؤمّلين في الوسام، أن يستوعوا هذا الدرسَ، ويعتقدوا هذا المعنى؛ فيكون لهم حجابًا لدنياهم، ورضًا لربهم يوم يلقونه وقد نالوا الدرجات، وورثوا الجنات...
فاللهمَّ اكتب لنا حضورا حيث يكون الحضورُ خيرًا لنا، واكتب لنا الغيابَ حين يكون الغيابُ خيرًا لنا، إنك تعلم ولا نعلم أنت علاَّم الغيوب؛ لك الحمد كلُّه، ولك العتبى حتى ترضى.
يا ربَّ العالمين.
د. محمد بن موسى باباعمي
المشرف العام على وسام العالم الجزائري
28 جمادى الآخرة 1447ه/19 ديسمبر 2025م
