"أشتاق إلى السجن... لأدرك معنى الحياة"
د. محمد باباعمي
12/26/20251 min read


"أشتاق إلى السجن... لأدرك معنى الحياة"
ولجتُ البيت ظُهرا، فاسَّارعت إليَّ زَهرة عُمري لينة ذات السبْع سنين، وقالت لي في حيوية بالغة: "انظر، هذه حقيبة صغيرة، اشترتها لي جدَّتي، وقالت لي أمِّي سأشتري لك فستانا بلون الحقيبة، لتلبسيه في عرسنا القريب المقبل"...
كنت في اجتماع عمليٍّ، ومرَّت عليَّ بحرَ هذا اليوم جلساتٌ واجتماعاتٌ، فيها المفرح وفيها المحزن؛ ومن ثم كان رأسي منتفخا بالأفكار ذات الألوان المتعارضة: الوردية، والبنية، والقرمزية...
بصوت خافتٍ، وبمشاعر ذابلةٍ، أجبتها: "جميلٌ، أحسنتِ بنيتي؛ هلا حملت هذا الكيس إلى المطبخ، فيه خضر وفواكه؟" ثم قبلتها قبلة خفيفة، فراحَت...
نبهتني الزوجة - وقد سمعت الحوار - إلى استجابتي الفاترة، والتي كانت كالصقيع باردة؛ غير أني بسبب من التعب وإدامة التفكير لم أستسغ ملاحظتَها، وأجبتها هي كذلك بتبرير ما فعلتُ، دون غضب ولا استشاطة فهذا ليس من طبعي؛ أجبتها وقلت لها: "لقد هنأتها، هل هذا لا يكفي؟"
ثم دخلتُ الحمام، وحضَّرت للصلاة، فصليت الظهر، وأخذتُ وجبة الغداء؛ بروحٍ وسطٍ بين ابتسامة وحزن، بين ألم ودوام تفكير؛ وكنت أستعجل القيلولة؛ لأنَّ ثمة مهامَّ علمية تأليفية تنتظرني لما بعد العصر...
إلى هنا انتهى الشوط الأول من الخاطرةِ المقالِ، وماذا بعد؟
**
بعد أيام من الحادثة، عدت إلى كتابَيْ علي عزت بيجوفيتش للمرة المائة: "الإسلام بين الشرق والغرب"، و"هروبي إلى الحرية"؛ فتفاعلتُ - ما شاء لي الله أن أتفاعل - مع أفكاره في سياقي المتأزم؛ وسجَّلت ما سجَّلت من قواعد كلية، ومن مطارحات معرفية، ومن أفكار تأسيسيَّة، ومن أسئلة حضارية... وهلمَّ جرًّا...
غير أني وقعتُ - وكأنه لأول مرة – على رسائل بين الرئيس العالـِم وأبنائه، حين كان في السجن؛ وأعدت قراءتها بهدوءٍ ورويَّة؛ وما لبثتُ أن اختنقتْ أنفاسي، فرجرجت عبراتي أفكاري، واغرورقت عيني في فيض من الدمع لا أجد له تفسيرا...
وكنتُ أخشى أن يدخل عليَّ أحد فيجدني على تلك الحال، ثم يسألني ببراءة: ما دهاك؟ وماذا ألم بك؟ هل أصابك مكروه؟
فإني لا، ولن أجد الجواب الذي يُقنعه؛
أأقول له: إنها المشاعر والعواطف، التي تبادلها الرجل المسجون مع زوجه وأبنائه، هي التي عذبتني؟
أأخبره أنَّ حقيقة كون امرأتِه خالدة، يوم سجن لأوَّل مرة، لثلاث سنوات، كانت كلَّ صباح تقوم، وتزين نفسها، وتسرح شعرها، ثم تنتظره... وكأنه سيدخل الدار للتو؟
هل سأقول له: إنَّ علي عزت، وهو في السجن، كان يتحاور بالرسائل مع أبنائه، عن الباقلاوة، وعن مكان وضع الفُرن، وعن شراء البوضة للأطفال، بل وحتى عن خلجات قلب الحفيدة الرضيع وهي على حجر أمها...؟
فجأةً، وأنا مركِّز كعادتي، ولعلَّ ذلك من قبيل التمثيل وليس حقيقة فيَ، من يدري؟
فجأةً، دخلت زوجي، فقلت لها، دون أن أفكر: "أريد أن أدخل السجن".
وكأنها لم تفهم كلماتي، فسألت: "ماذا قلت؟"
فأجبتها: "أشتاق إلى السجن"؛
ابتسمت، ثم ضحكت، كعادتها المرحة المنشرحة؛ واعتبرت ذلك من قبيل المزاح، فأدارت لي ظهرها، وخرجت لشؤون أولادها وبيتها...
**
وضعت الكتاب على المخدة مِن حولي، ثم استغرقتُ في بحر من الأفكار، لكنها ليست من نوع الأفكار العلمية، أو المعرفية، أو الحضارية... الجادة، القاسية، الحادة... التي ألِفتها وألِفَتني... وإنما، استغرقتُ في أفكار، ذات بعدٍ قلبيٍّ عاطفيٍّ...
سألت نفسي: تُرى، هل الروتين يقتل المشاعر والعواطف؟
وهل تحولت حياتنا إلى ماكينة من الإنتاج السريع، ومسابقة الزمن؟
هل هذه المشاريع التي وضعنا أسسَها صارت هي التي تلتهم عواطِفنا، وتُدخلنا في دوامة من الإنجاز لا تنتهي؟
هل آن الأوان أن أستقيل من كلِّ مؤسسة، وكل مشروع، ومعهد... لأتفرغ للآني، والحالي، والظرفي... فأرتشف بهدوء سُلافة الحياة مع والديَّ وأهلي، وزوجي وأبنائي...؟
ألم أكن قاسيا جدا حيالهم، بانشغالي عنهم في برنامج زمني صارم، ووتيرة عملية قاتلة؟
أنا الذي يقولون عني دائما: "لم نر مثلك حبًّا لنا، ولا عطفا، ولا اهتماما، ولا عناية بشؤوننا...؟
أليس قولهم ذاك؛ لأنهم لم يخبُروا والدا "عرف السجن"، وعرف المحنة، فأدرك معنى الحياة؟
***
صبيحة يوم ممطر، على مكتبي بمعهد المناهج، تتوزع أوراق مبعثرة من تفسير كلام رب العالمين، أصحِّح ما ألَّفتُ منه، ضمن مشروع "بذور الرشد" من سورة القلم؛ ثم غفوتُ غفوةً قصيرةً؛ وطلبتُ من الشباب والطلبة الساكنين هنا أن يفسحوا لي معهم في طاولة الَفطور الصباحي؛ وسألتهم: ماذا تعرفون عن علي عزت بيجوفيتش؟ أعني عن زوجته وأبنائه وعن العلاقة التي بينهم؟
كان الجواب مَعرفيا جيدا مِن بعضهم، فذكر لي أسماء الجميع، وبعض ما أثر فيه من الحوادث والأحداث؛ بخاصة من خلال المراسلات، ومن خلال الفيلم التركي: علي عزت بيجوفيتش (Alija)...
ثم، سألت عن المشاعر، عن العواطف... عما يختلج في النفس، وعما يفور في الصدر...؟
وذكرت لهم أنَّ أوَّل ما يولد حين تولد الحضارة هو: المشاعر والعواطف؛ وأول ما يموت يوم تموت الحضارة هو العواطف والمشاعر... ثم تحيا أو تموت على إثرها الأفكارُ، والمواقف، والعلاقات، والخطط، والبرامج، والكلمات، والمدن، والعمارات...
والصواب أنَّ هذا الحكم يصدق كذلك على المؤسسات، والجمعيات، والشركات، والجماعات، والعائلات... أي على كل تجمع بين بشرٍ، من اثنين فما فوق؛ فإذا ما تجمدت العواطف بين أفرادها فارتقِب أفول نجمها، إن لم يكن اليوم فغدًا...
ثم إنَّ بعض المجتمعات، مثل المجتمع الأمريكي، قبل أن يغزو العالم بأفكاره، بمنتجاته، بسيطرته... غزاه بالعواطف والمشاعر؛ ولا أزال أذكر ولا أنسى، أنَّ التلفزيون حين وصل إلى بلدتنا المحافظة، في نهاية السبعينيات، كانت أفلامٌ من مثل "دالاس"، و"الغني والفقير"، "وعازفة الليل"... هي التي تهيمن على قلوب الناس، المتفرجين الجدد من كل الأعمار، في حياء واستحياء... ولقد كان ثمة بُركان من العواطف يتفجر في دواخلهم، ولا يعبِّرون عنه إلا بالصَّمت، والخطأ أحيانا... ولكنه، هو هنالك، ينخر ويحفر...
وانتهينا إلى سؤال مِفرقيٍّ هو:
كيف لنا أن نغذي عواطفنا بحبٍّ، وجمال، وعشق، وهيام... دون أن نسقط في الحرام، ودون أن نتجاوز عتبة ما نهى الله عنه؟
وكيف لنا أن نخاطب عواطف شبابنا، فلا يرون في دينهم برودة وجفاءً وقبحًا، وفي الكفار حرارة ونضارة وجمالا؟
كيف لا نكون أعرابًا، وكيف نتفادى أن يقول لنا رسول الرحمة ما قاله للأقرع بن حابس: "أرأيت إن كان الله نزع الرحمة من قلبك، فما ذنبي؟".
أعتقد أنَّ الاشتغال في هذه المساحة الخطيرة بات واجبًا وضرورة؛ بخاصة أنَّ وسائل تجفيف العواطف باتت كثيرة ومتنوعة، من تقنيات للتواصل، ومن جرائد قاتلة للجمال، ومن صور يومية مميتة للحشمة والحياء، مغتالة للحياة والأحياء...
فإننا مع ذلك، كما كان علي عزت بيجوفيتش وهو في سجنه، نرفع راية الأملِ، وننافح عن الروح العالية، وعن المشاعر الصادقة، حتى حيال من يكرهنا، نفعل ذلك غدوا وعشيا، ظاعنين ومقيمين، صغارا وكبارا، حين الحزن وحين السرور، مع الغنى ومع الفقر... نفعل ذلك ولا نبالي؛ لنعيد للحياة نضارتها وخضرتها، وجمالها وبهاءها...
هي أشياء صغيرة من حياتنا... لا نعير لها بالا... ثم ينتهي شريط الحياة...
---------
يقول بكر ابن علي عزت لوالده في رسالة مؤرخة بـ14 ديسمبر 1985 حين أخبره أن السجن خفض إلى تسع سنوات، في خبر مخيب للأمل: "لقد اصطنعتُ الكلمات، لكي أهدئك بها، وعند اختراعي لها هدأت نفسي أيضا؛ أنا وأنت نؤمن بالقدر، وهذا يعني أنَّ يوم خروجك من السجن مكتوب... والدي، لقد قلتَ بشكل رائع في نهاية كتابك: إنَّ عظمة الإنسان في روحه التي تقاس بالزمن؛ ومن هذه الناحية، فإنَّ لديك فرصة ربما لتعيش كإنسان مكتمل؛ أي إنك في المكان الصحيح (في السجن)، بينما نحن البقية في الهامش، أو أننا متفرجون في أفضل الحالات".
محمد باباعمي
مكتبي بمعهد المناهج، برج البحري، الجزائر العاصمة
3 محرم 1440- 13 سبتمبر 2018
