بلدا آمنا أمينا... (الأمانة عصارة الأخلاق الحسنة، والخيانة صديدها)

د.محمد باباعمي

12/7/20231 min read

لا شيءَ يذيب قلبي ومهجتي مثل الأمانة، ولا شيء يذهب عقلي ويفقدني رشدي مثل الخيانة؛ وإني لأعتقد أنَّ الأخلاق الحسنة جميعها لو لخِّصت في كلمة واحدة لكانت هذه الكلمة هي "الأمانة"، كما أنَّ جميع الرذائل والخبائث لو اختزلت في لفظة واحدة لكانت هي "الخيانة". ولذا نقرأ في محكم التنزيل: "إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين"، "وإنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين".

مِن خلال "الطاكسي"، و"المطعم"، و"المتجر"، و"المخفر" يمكنك أن تتعرف على أيِّ بلد تزوره أوَّل مرَّة؛ فإن كان إنسانُ هذه الفضاءات "أمينا صادقا، عدلا ثقة" علمت أنَّك نزلت "بلدا آمنا طيبا"، وإلاَّ فالعكس هو الراجح.

ففي بعض البلاد، على كثرة ما ركبتُ من سيارات الطاكسي، لم أتذكر يوما أنَّ واحدا منهم خانني، أو عاملني معاملة مريبة مشينة؛ بل النقيض هو الصحيح؛ حتى إنَّ البعض منهم يسألني: "مِن هُنا الطريق أقصر، لكنَّ الزحمة تكلفنا وقتا أطول؛ ومن هنا الطريق أطول، والتكلفة أغلى، غير أنَّ الوقت أخصر..." ثم يسألني: "أيَّ طريق تختار؟".

قد لا أفهم لغة القوم بوضوح، فيضطرون لاستعمال كلمات يعتصرونها مما يعرفون من لغات، أو يعتمدون الحركات ولغة الجوارح بديلا عن الكلام ولغة اللسان؛ غير أنَّ الأهمَّ عندهم أن أقرِّر وأختار، ثم ينفذون وهم مطمئنون.

وأتذكر يوما أني اشتريت الغداء من مطعم "إسكندر"، ليوصلوه إلى البيت (والإيصال هنا خدمة مجانية تنافسية، لا يدفع الزبون عنها شيئا) فدفعتُ تكلفة الطعام، ثم عندما حضر الشاب إلى البيت ليسلِّم البضاعة، أعطاني عددا من الليرات، وقال: "أخطأنا في الحساب، فهذه لكم...".

ثم غادر، وما غدر. فكانت هذه الخلَّة، وهذا الخلق، أطيب من الطعام (حتى، وإن كان طعام إستانبول حلو المذاق شهيا)؛ غير أنه لا أحسن ولا أفضل ولا أبلغ شرحا للقلب والروح من الأمانة.

ولكلٍّ منا أن يلحُّ في الدعاء – ناوٍ وطنه وسائر بلاد المسلمين – بما دعا به أبونا إبراهيم عليه السلام: "ربِّ اجعل هذا بلدا آمنا" أمينا، معافا، مطمئنا... آمين، آمين، آمين.