فنُّ "أن لا تكون"

بعد عقودٍ من الممارسة العلميَّة والعمليَّة، ضمن مجموعٍ مصطبغ بصبغة العصر، في إطار عقلٍ جمعي ملائم للسياق الحضاري المتأزم، تحت إطار "منظومة الرشد" والأفكار والمشاريع المؤسسة على إثرها؛ تشكَّلت لديَّ قناعة تحوَّلت مع الأيام إلى قانونٍ مفسّر للحياة والوجود، لا مجرَّد قاعدة وظيفية للإدارة والتسيير؛ وفحوى القانون ما يلي: كلُّ الناس يحرص على "أن يكون"، ويجتهد في سبيل - ما يسمّيه أصحاب التدريب - "تحقيق الذات"؛ ومن ثمَّ يتضخَّم "الأنا" على حساب "النحن"، وتنتفخ "الذات" على حساب "الآخَر"؛ ثم ينقسم جمعهم إلى فريقين: - فريقٌ يجاهد نفسه لمواجهة هذا التيار النفسي الجارف، فيثبت في القمَّة منتصرًا. - وفريق يضع رجله على المنزلق المشحَّم، فيهوي إلى القاع منهزمًا. والمحظوظ من يخرج سالما من "الجهاد الأكبر"، جهادِ النفس والهوى، وجهادِ "الكينونة" والأنا؛ ثم يشرع في معركة أخرى، وثانية وثالثة؛ إلى أن يلقى الله تعالى وهو إمَّا راض عنه، فيا سعداه؛ أو ساخط عليه، فيا شقواه. أمَّا "أن لا تكون"، وأن "تنصرف في الوقت الملائم"، وأن "تترك المجال لمن بعدَك"، وأن "تقبل أن يُستغنى عنك في حقلٍ كنت أنت رائده وصاحبه"؛ أمَّا هذا فهو الفنُّ الذي يجهله كثيرٌ من الناس، ويسقط فيه أغلب من يمارس العمل العلميَّ، والسياسيَّ، والتجاريَّ، والاجتماعيَّ... إنك إن حرصت على "أن تكون"، ضاعت عليك فرصٌ كثيرةٌ مما هو مندرج ضمن "النفحات الإلهية السخيَّة"، "والبذور المنبعثة من الجود الرباني"؛ فتخسرُ من الفرص الكثير، ولا تحقق من العمل إلاَّ القليل، وتتحوَّل مع مرور الزمن - والزمن يُبلِي ويُفني –، تتحوَّل إلى "حارسٍ ذليلٍ لمشروعك"؛ بل وإلى "عابدٍ حقير لمنجزك"؛ كلُّ ذلك لأنك لم تتعلَّم فنَّ "أن لا تكون". و"أن لا تكون" لا تعني القطيعةَ، ولا الانقلابَ، ولا الشقاقَ، ولا أن يلعَن الذي ذهب الذي بقيَ، أو يسبُّ الذي بقي الذي غادر؛ وإنما تعني أن "تعلِّق حذاءك الرياضي" في الوقت الملائم؛ تعلّقه وأنت في قمَّة العطاء، تعلقه لا لتركن إلى السكون والخمول، أو تتوجه وجهة الراحة والدعة؛ تعلقه لتجدد النية في حقل جديد، وتستمطر من الله الفتح الأكيد؛ وأنت بفعلك هذا تستدعي العطاء الرباني اللامحدود، وتكفر بالعطاء البشري المحدود. ومن المفارقة أنَّ تمرُّسك في "فنِّ أن لا تكون" مشروطٌ بأن تتقن "فنَّ أن تكون"؛ فمن لم يحسن "أن يكون" لم يحسن بالضرورة "أن لا يكون"؛ ذلك أنَّ الانتفاء المطلق بلا وجودٍ مما يخالف "السنن الكونية"، ويصادم "الجبلة الإنسانية"؛ ولهذا ارتقى الخضر عليه السلام، معلم كليم الله موسى عليه السلام؛ من مقام "فأردتُ"، إلى مقام "فأردنا"؛ ثم واصل الصعود إلى أن بلغ مقام "فأراد ربُّك". ولا يلغي مقامٌ مقامًا آخر، والانمحاء لا يجمل إلاَّ بعد الإثبات، وإلاَّ كان مصنفا في عداد الشطحات المنهي عنها شرعا، الممجوجة عقلا. فن "أن لا تكون" يستوجب قيراطا، بل قراريط من الوفاء الذي يسم أخلاق العاملين المرابطين؛ ولقد قال جلَّ من قائل: "ولا تنسوا الفضل بينكم" (البقرة الآية 237)؛ وعلَّمنا أن نترحَّم على من سبقَنا، وقال مادحا المؤمنين الآخِرين: "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم" (الحشر الآية 10). و"أن لا تكون" لا تتحقَّق بالتخلي عن المسؤولية، ولا بتضييع ما كنت فيه، أو تقطيع اليد في آخر سنبلة تحصدها، أو إحراق الدار بعد أن تهمَّ بالبدار؛ ذلك أنَّ من تعلَّم "فنَّ أن لا يكون"، وجب عليه أوَّلا أن يُعِدَّ من يخلفه، وأن يحرص على المدد، وأن يجتهد في "رسم المنهج للرجال"، لا أن يقتل الرجال، ويحطّم المنهج، فيضيع كلُّ شيء. مارستُ ولا أزال أمارس "فنَّ أن لا أكون"؛ غير أني لا أملك القدرة على أن أحكم على نفسي أني أدركتُ المراد، وبلغتُ برَّ الأمان، وأحسنتُ فيما أتيت، وصدقت إذْ نويت؛ ولا أعتقد أنَّ أحدا يملك القدرة على هذا الحكم له أو لغيره؛ فإنَّ مثل هذا من مقام "الإدارة بأفقٍ إيماني رباني"، وليس من سنخ "الإدارة من سقف تقني بشري". كلَّما تذكَّرت موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه حين عزله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ولاية قنسرين أحسست بالعظمة تغمر حضارتنا، وتيقنت أنَّ خالدا كان في هذه أعظم من عمر؛ ذلك أنَّه تقبَّل العزل على مضضٍ، وآلمه موقف عمر منه؛ غير أنهَّ عرف كيف يستجيب لأمر خليفة المسلمين، ومارس "فنَّ أن لا يكون" فلم يحدث فتنة ولا بلبلة في الصف الإسلامي؛ وقصارى ما قاله لعمر رضي الله عنهما: "لقد شكوتُك إِلى المسلمين، وبالله إِنَّك في أمري غير مُجملٍ يا عمر!"؛ وبعد التحري في أمر ثرائه، وفي شأن الأنفال، برَّأ الخليفة ذمَّة خالدٍ، وقال فيه شهادته التاريخية: "يا خالد! والله إِنَّك عليَّ لكريمٌ، وإِنَّك إِليَّ لحبيبٌ، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ. وكتب عمر إِلى الأمصار: إِنِّي لم أعزل خالداً عن سخطةٍ، ولا خيانةٍ، ولكنَّ النَّاس فُتنوا به، فخفت أن يوكلوا إِليه، ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا: أنَّ الله هو الصَّانع، وألا يكونوا بعرض فتنةٍ" (الطبري، تاريخ الأمم والملوك) صلَّى الله على حبيبي رسول الله عليه السلام، لم يقل للناس "إني باق هنا ولا أغادر"، ولم يقبل أن يمنح الخلود ولقد اقترحه عليه الملك الكريم مبعوثا من ربّ العزة، ولكنَّه فضَّل الفناء على البقاء، بل اختار الفناءَ لأجل البقاء؛ وقال للناس: "تركتُ فيكم..." (رواه مسلم)، وقال: "تركتكم..." (الترمذي)؛ ولم يقل: "بقيت فيكم...". فمات وتوفاه الله، وليس فوق الأرض من بلغ مبلغه من الإيمان والإحسان... فداك روحي يا رسول الله، يا من علَّمني فنَّ "أن لا أكون"، فتارة وفقت، وطورا أخفقت؛ ولكني أبدا أحاول وأجاهد إلى أن ألقى الله وهو عني راضٍ، وأجاور رسول الله في الفردوس الأعلى، ولكن دون ذلك خرط القتاد، "وما يلقَّاها إلاَّ الذين صبروا، وما يلقاها إلاَّ ذو حظ عظيم" (فصلت الآية 35). د. محمد باباعمي معهد المناهج، برج البحري 22 شعبان 1444ه/15 مارس 2022م --------------------- ملاحظة: - هذه مقالة وليدة اليوم المغلق في وهران، للمجلس الأداري للمدرسة العلمية الجديدة، شعبان 1444هـ/مارس 2023م... وهي مرجعية في التأريخ لمنظومة الرشد، أو بالأحرى التدوين للمعالم الفكرية للمنظومة... وفيها تحليق في المنهج وغوص في الموضوع... فلا هي ذاتية ولا هي موضوعية؛ لكنها مشحونة بقدرة تفسيرية عالية، مستمدة من الفكر الجمعي، غامسة فتيلها في الفعل التربوي... والله أعلم. - للمقال علاقة وثيقة بمدلول "رجل المرحلة"، وكذا بثلاثية: "الحفر، والنسج، والمدد". - حاورت صديقا لي، وهو من "رجال الأعمال"، حول فحوى المقال؛ فأكد لي أنه حقق كلَّ أهدافه، وبلغ مستوى الوفرة؛ والإشكال الأساسي الذي يعانيه هو "كيف يغادر"، و"كيف يتقن فن أن لا يكون"؛ وهو يجد موانع بالغة وصعوبات غالبة في هذا السبيل.

محمد باباعمي

3/16/2023