جنة العمر: ربيع الستين

(عن نعمة الوالدين أحياء، أو أمواتا)

د.محمد باباعمي

1/23/20251 min read

لقَّنني أستاذي الشيخ عبد الله كنطابلي (رحمه الله) قصيدة بليغة عن عمُر الإنسان، مطلعها:

ابن عشرٍ من السنين غلام * رُفعت عن نظيره الأقلام

وابن عشرين للصِّبا والتصابي * ليس يُثنيه عن هواه ملام

وقال عن الخمسين والستين، وأنا اليومَ بينهما، قال:

ابن خمسين مرّ عنه صباهُ * فيراه كأنَّه أحلام

وابن ستين صيرته الليالي * هدفا للمنون وهي سهام

أمَّا أستاذي الدكتور محمد ناصر فله قصائد أبلغ من هذه، حول "عزوبة الخمسين"، و"عزوبة الستين"؛ ذلك أنَّه وجد في الخمسين والستين جمالا وجلالا لا مثيل لهما؛ فأنشد الشعر بديعا في وصف ذلكم الجمال، والإشادة بأولئكم الجلال.

أمَّا أنا فبحمد الله الكريم المنان، أعيش "جنَّة العمر" في "ربيع الستين"؛ ولا فخر...

كيف ذلك؟

نِعَم الدنيا على العباد كثيرةٌ، منها نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، ونعمة العلم، ونعم العافية... ومن أجل النعم "نعمةُ الوالدين"؛ ذلك أنَّها نعمة ليس للإنسان فيها فضلٌ، بل هي هبةٌ من الله تعالى خالصةٌ؛ ولذلك قال جلَّ من قائل: "وبالوالدين إحسانًا؛ إمَّا يبلغنَّ عندكَ الكبر أحدُهما أو كلاهما"؛ أي – كما ورد في التفاسير -: "إن يبلغ أحدُ الوالدين أو كلاهما حدَّ الكبَر وهما عندكَ، أي في كَفالتك؛ فَوَطّئ لهما خُلُقك ولين جانبك".

ولم تقتصر الآية الكريمة على الوالدة أو الوالد؛ ولكنها استوفت جميع الحالات: "أحدهما" أي الوالد أو الوالدة؛ "كلاهما" أي الوالد والوالدة.

ومن يكن له والدان، وهو في مثل عمري، يشارف على الستين؛ وهو زوج لكريمة، ووالدٌ لأبناء أعزَّة، وأخ لإخوة وأخوات أفاضل؛ فهو من جهة يعيش "جنة العمر"؛ ويتنسَّم زهور "ربيع الستين"؛ غير أنه من جهة أخرى يقع بين الخوف والرجاء؛ هل أحسن كما أمر الله في قوله: "وبالوالدين إحسانا"؟ أم أنَّه فرَّط وضيَّع، وقد حذَّر الله تعالى أن نقول لهما: "أفٍّ"، أو "ننهرهما"؟

أكاد أجزم أنه لولا فضلُ الله، وعونُ الله، وعفوُ الله؛ ولولا إحسانُ الوالدين، وطيبتُهما، وسبقهما بالبر بنا؛ لما استطعنا أن نوفيهما شيئا من الإحسان؛ كيف لا والتقصير بعضٌ من خصالنا وخلالنا؛ والضعف صفة غالبة فينا.

***

اليومَ، وقد فتح الله بزيارة والديَّ إلى عُمان الأمان؛ ولقد كان ذلك حُلمهما لسنين؛ بخاصَّة والدِي الذي كان يردد دومًا: "أمنيتي أن أزور عمان، وإن متُّ بعدها فلا أبالي"...

اليوم أقول:

لله الحمد على نعمة الوالدين؛ وعلى نعمة الألفة بينهما وبين الأهل والإخوة والأخوات والزوجات والأبناء؛

ووالله لن أفديَ هذه النعمة بملء الأرض ذهبا؛ فلا المال يغريني، ولا الجاه يسبيني، ولا القناطر المقنطرة من الذهب والفضة، ولا الخيل المسوَّمة والسيارات الفارحة، ولا الأنعام والضياع... لا شيء من ذلك يعدل جلسة واحدةً إلى حضرة الوالدين؛ أو إسناد الرأس إلى حِجر الوالدة في صالون البيت الفاره، أو الأخذ بيد الوالد وهو يتجول بين حدائق مسقط الغناء...

كتبتُ عن الوالدين أوان الكورونا خواطر أدبية، نشرتها في "مقالات السحر"؛ منها:

"من حِجر الأم إلى الحَجر الصحي: هدية إلى غزة زمن الكورونا"؛

و"فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها ولا تحزن: لكل أم فرَّق الكورونا بينها وبين بنيها"؛

و"أبي... حين تغيب الكلمات تخلفها الدموع والعبرات..."

واليومَ أكتب لأذكِّر من له أبوان، وقد بلغ الرشدَ واستوى على سوقه؛ ولمن فقد أحدَ والديه أو كليهما وهما أحبُّ الناس إليه؛ وأقول:

لئن فصلت الموت بيننا وبين آبائنا وأمهاتنا؛ فإنَّ الإحسان لا يفنى، وإنَّ الديان لا يموت؛

والفرصةُ سانحة لمن أدرك والديه أو أحدهما أن يجاهد نفسه على البر بهما؛ والخير لا يبلى، والكريم لا ينام؛

فلنكن من المحسنين... ولا نبالي...

محمد بن موسى باباعمي

مكتبي، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية

صبيحة الخميس 23 رجب 1446ه/23 جانفي 2025م