وربَّ مسكوتٍ عنه أبلغ من منطوق به

وعدٌ من الله تعالى أن يُظهر لعباده آياتِه، ويريهم من العبر ما يفتح الآفاق، ويفتّح الأنفس؛ ذلك ليعلموا أنَّ الله هو الحقُّ، وأنَّ ما جاء به حقٌّ؛ قال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

جوفَ الليل، والليلُ سكونٌ؛ بل أوان السَّحَر، والسَّحَر مفتاحُ الكون؛ لُذت بكتاب ربي دارسًا تاليًا، متفكّرا متدبّرا، خاشعًا معتبرًا؛ فاستوقفتني آيةٌ ولم أقدر على تجاوزها إلى التي تليها:

فجأةً وكأنها حملتني إلى رحاب الكون والآفاق، ونزلت به إلى أغوار النفس وموطن الأخلاق ...

فجأةً انتقلتُ من بُعدٍ مسطَّح للعالم، إلى أبعاد لا حصر لهذا من "رؤية العالم"...

قال جل جلاله في سورة النور: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ الآية العاشرة، وقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الآية العشرون.

معلوم أنَّ "لولا" حرفٌ يتضمَّن معنى الشرط؛ وأنَّها تستتبع جوابًا للشرط ولا بدَّ، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ... ﴾ (الآية من سورة النساء)؛ وفي قوله سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ من ذات السورة؛ غير أنها في هاتين الآيتين من سورة النور جاءت محذوفةً جوابَ الشرط: فما الحكمة من ذلك؟ وما العبرة من العدول عن الإفصاح والإظهار، إلى الحذف والإضمار؟

تصفَّحتُ تفاسيرَ كتاب الله تعالى، قديمها وحديثها، ما كان منها بالمأثور، وما عدَّ ضمن التفسير بالرأي؛ وجميعُها متفق على أنَّ ترك جواب الشرط وإخفاءه إنما هو "للتعظيم"، و"لكون السياق دالٌّ على المعنى"؛ ومن ذلك قول الفراء وهو من أئمة اللغة: "متروكُ الجواب؛ لأنَّه معلومُ المعنى. وَكَذلك كلُّ ما كان معلومَ الجوَاب فإنَّ العرب تكتفي بترك جوابه؛ ألا ترى أنَّ الرجل يشتمُ صَاحبه فيقول المشتوم: أَمَا والله لولا أبوك، فيُعلم أنه يريد لشتمتُك، فمثل هذا يُترك جوابه".

وقال إمام أهل التفسير الطبري: "ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنَّه عَوّاد على خلقه بلطفه وطَوْله، حكيمٌ في تدبيره إياهم وسياسته لهم؛ لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، وفضَح أهل الذنوب منكم بذنوبهم؛ ولكنَّه ستر عليكم ذنوبكم، وترك فضيحتكم بها عاجلاً، رحمةً منه بكم، وتفضُّلاً عليكم؛ فاشكروا نعمه، وانتهوا عن التقدّم عمَّا عنه نهاكم من معاصيه. وتركُ الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه".

والعلامة الزمخشري في كشَّافه قال: "وجواب لولا متروٌك، وتركُه دالٌّ على أمرٍ عظيم لا يُكتنه، وربَّ مسكوتٍ عنه أبلغ من منطوق به".

وحتى صاحب التفسير الإشاري الإمام القشيري لم يخرج بالآية من معناها الظاهر إلى المعنى الباطن، فقال: "لبقيتم في هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة".

قال قطب الأئمة الشيخ اطفيش: "والجواب محذوفٌ على طريق المبالغة، حتى كأنَّه لا يجيء به لفظٌ تقديره لكان ما يكون، أو كان ما لا يُطلق، أو لهلكتم دينًا ودنيًا".

وقال الإمام ابن عاشور صاحب التحرير والتنوير: "لولا فضل الله عليكم فدفَع عنكم أذى بعضكم لبعضٍ بما شرع من الزواجر، لتكالبَ بعضكُم على بعض".

وقال الشعراوي في خواطره البديعة: "لولا هذا لفُضحتم ولتفاقمت بينكم العداوةُ، لكن عصمكم فضلُ الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة".

*******ا

والذي استوقفني في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ أنَّها تفيدُ - من حيث التفسيرُ - معنى المعالجة لظاهرة اللعان بين الزوجين، ولتبعاتِ الإفك والبهتان، ولـِما يقع بين المسلمين من أذًى داخليٍّ، وهو أشدُّ على النفس وعلى المجتمع من الأذى الخارجيّ؛ لكن - من حيث ثمرةُ الآية، ودورها في مداواة أمراض النفس الإنسانية، وشفاء أمراض الانحراف المجتمعية - فإنها تتجاوز الحصرَ، وتندُّ عن القصر؛ ذلك أنَّ الآية صالحةٌ لكل ظرفٍ وحالٍ، وكلّ زمانٍ ومكانٍ، وكلّ مسلمٍ بل وإنسانٍ.

كلُّ ما يعتريكَ من أمور الحياة، حلوها ومرها، خيرها وشرها؛ يمكنك أن تتلو قوله تعالى حياله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾، أو أختها المختومة بـ﴿وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

إن كنتَ قد نجوت من ضررٍ، وكشف الله تعالى ما بك من ضُرٍّ؛ فاعلم أنَّه لولا فضل الله عليك ورحمته، ولولا أنَّه سبحانه تواب حكيم؛ لما فُرج عنك، ولما لحقتك نجاةٌ.

وإن كنتَ قد تُبت واستغفرت من ذنبٍ؛ فاعلم أنه لولا فضلُ الله عليك لم هُديت إلى التوبة؛ ولولا رحمته بك لما أنسئ لك في الأجل لتتوبَ؛ ولولا أنَّه تواب حكيم لما غَفر لك وتاب عنك، ولما رأف بك ورحمك...

وإن كنت قد وسّع عليك في علمٍ، أو صحَّةٍ، أو جاهٍ، أو مالٍ... فاعلم أنَّه من فضل الله ورحمته، وتيقَّن أنَّك لم تؤتَ ما أوتيت على علم عندك أو قوَّة؛ وإنما هو من الله تفضُّلٌ وتكرُّمٌ، وابتلاءٌ واختبارٌ.

وحتى كونُك مسلما، وكذا رضا الله عنك، ودخولَك الجنَّة... ليس نتيجة حتميةً لعملك؛ وإنما هو فضل الله وكرمه بك، ورحمته تعالى وحنوه عليك؛ ولأنه سبحانه هداك وتاب عليك؛ ألم يرد عن رسول الله ﷺ فيما روت أمُّنا عائشة رضوان الله عليها قوله: "سدّدوا وقاربوا، وأبشروا، فإنَّه لن يدخِل الجنَّة أحدًا عملُه. قالوا: ولا أنت، يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني الله منه برحمة" (رواه مسلم).

*******ا

كيفما كان حالك أخي أختي؛ سعةً أو قترًا، صحَّةً أو مرضًا، سرورًا أو حزنًا، عزَّةً أو قهرًا... أنصحُك، وأنصحُ نفسي أن تجعل من الآية مفتاحا للخير وحسنِ الحال، مغلاقا للشرُّ وسوءِ الخاتمة والمآل؛ ولتكن – وغيرها من كلام الله تعالى – لصيقةً بلسانك، تنبع من قرارة وجدانك، وترشح بها شفتاك؛ لترتوِ ماءً عذبا زلالا، وتجد من الطمأنينة ما لا تجده إلاَّ بجوار ربك، ثم يوم القيامة تكون شاهدًا ومعراجا لك.

قال الحافظ الحجة ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج"؛ والأزواج معنى شاملٌ، ليس مقصورا على النكاح؛ وإنما العبرة بعموم الدلالة واللفظ، لا بخصوص الحادثة والسبب.

سبحانك ربي، أتقرَّب إليك وألهج، وأردد آيتك ولا أملُّ: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾، ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

سبحانك ما أعظم شأنك...سبحانك.

د. محمد بن موسى باباعمي

مكتبة جامع السلطان قابوس

الثلاثاء17 شعبان 1445ه/27 فبراير 2024م