معلقة الجزائر

حمد بن حارث الحراصي

12/2/20241 min read

ألقيت في البحر الخضم دلاء

فاصطدتُ منه عواصفا هوجاء

وتركته رهوا وحوتي تابع

جهتي وخَضرٌ في سفيني جاءَ

وخرقتها عمدا لنغرق ها هنا

فخُذي الجزائرُ من أتاك فداء

وأنا كلون الماء، لست كطعمه

لكننا نُجري النقاءَ سواءَ

أناْ لست أغرق فازرعيني غيمة بالعمق كي أحيا بعمقك ماء

....

حدثت قلبي باللقا فرأيت من نزوى الجزائرَ تفتح الأبوابا

لما عبرت من السماء إلى السما

عاقرت كأس العابرين سحابا

أذّنتِ للقيا، توضأ خافقي

وأقمتُ فانبثق الهوى محرابا

واسم الجزائر بالمهابة يكتسي

حتى التراب هنا يعيش مُهابا

وحملتُ نزوى، ها هو الشرق ارتمى للغرب يلثم مترفا ميزابا

....

وطويت باسم الحب دربا قال لي بعدي سيُبلِغُكَ الهوى ميقاتا

لما نظرت إليَّ كُنَّ ملامحي أنتم، كلانا يشبه المِرآةَ

وملامح الشعراء تعرف بعضها

فلمَحتُني ولمحتُكم أبياتا

والنازلات الماحقاتُ رأيتها اجتثت من الطين الطهور اللاة

والزاكياتُ الطاهرات سعت إلى العُّزى فهدَّت من رُباك مَناةَ

شقي الطريق إلى دمي، لا تجفلي إن ما رأيتِ الذاتَ تجهل ذاتا

وتمردي لطفا وصبي في الدم القاني من اللون البهي حياة

....

يا أغنياتِ الحرب لما أن رمت

من عزفها باسم الكفاح لهاثا

زهوا يلحنها الشجاع فأورقت

حربا، وأودت من عِداكِ ثلاثا:

أجسادَهم أرواحهم أفكارهم

فتساقطت في بعضها أجداثا

....

والحرب تسكب في فرنسا نارَها

وعلى الجزائر ماءها الثجاجا

أطفالها ونساؤها ورجالها

انطلقوا إلى عرصاتها حُجاجا

وحروف مفدي في البنادق ثورةٌ

ويدُكُّ باسم لهيبها الأفواجا

....

مفدي فديتك كيف سال الليل من

شعر الكفاح على الجراح صباحا

قل لي وكيف الشعر أنجب ثورة

حتى ارتمت باريس فيه جراحا

مفدي أيا مفدي وكيف أسالَكَ

الحرفُ العنيدُ على الزمان كفاحا

....

زِلزال صوتِك ظل ينمو صرخةً

في كونهم، وعلى الطريق فخاخا

فتعثرت رِجلا فرنسا والنُّهى

ضجت برأس الغاصبين صراخا

وتساقطوا في نار شعرك، لم تذر بعد اصطلاء جحيمها أوساخا

....

والريح تكنِس خلفَهم ما خلفوا

لم تُبق في طهر البلاد رمادا

لا بدع فالصحراء طود ها هنا

وتفوق فرط ثباتها الأطوادا

مات الملايينُ الفداءُ، فلم يكن

للموت إلا إن يُرى ميلادا

....

لما توكلتم على رب الورى

كسَّرتم صنم الخنى أجذاذا

لما رأى الشيطان صورة صبركم

وثباتكم في الحرب قال: معاذا

لم تسألوا والحرب تعصف نارُها

هل نرتمي بلهيبها ولماذا

....

لا صوتَ يعلو فوق صوت مجاهدٍ

للثأر قام فألهب الثوارا

يَلقَون أسراب الرصاص بصدرهم

كرما لتقضي منهم الأوطارا

حتى الطيورُ هنا قتلن نسورَها

والضأن يذبح سيفُه الجزارا

....

عجنوا بطينهم المعزة، فانظروا

لطحينهم كم أدهش الخبازا

يقتات طير النصر منهم ثم لم يلبث سوى أن للثريا جازا

حتى النجاةُ وهم يهبوا للفدى

نظروا إلى مِرآتها اشمئزازا

....

لما تهرت الجزائر في دم الثوار، كثفَتِ الدماءُ أُناسا

سقطوا بروقا في العدى لكنهم

هطلوا على رئة الفدى أنفاسا

....

من كالجزائر حين تمسك بالعصى

ظن العدوُّ عِصيَّهم رشاشا

والخوف طوقهم فكل حامِلٌ

في رأسه من خوفه أعشاشا

لولا الجزائرُ لم تُجدَّد أمةُ

الأحرارِ، لولاها الإبا ما عاشا

....

ورصاصهم حين استبان يقينَكم بالنصر ثار وأهلك القناصا

ومفاوز الصحراء قادت رملها

وثوى بأبصار العداة وغاصا

ومُحلقاتٍ بالسماء رمت لها الصحراءُ من لهَبِ الرمال رصاصا

رُدَّت ومَن يقتادها بعزومكم

رُدت على أعقابها أنكاصا

....

ومضيتِ تُحيين "البُليدةُ" ثورةً، فرأيتِ فورا في تِبسَّهْ حياضا

ترمي تبسه ورميها كعصى الكليم فصكتِ البحر الجفول فغاضا

لم تنته حتى رأت جسد العدى

يهوي على أرواحهم أنقاضا

....

قَسَنطِينةٌ لم تُطلقي من صرخة

إلا أثرت الشلف والأغواطا

وعَنَابة انتفضت وينمو كرمها للثاملين الناهبين سياطا

....

أرض الجزائر لا شبيه لصوتها

لما أقام من النضال عُكاظا

قامت أقامت

أرعدت فتدفقت

برقا يكُفُّ وميضُه الألحاظا

وسماؤها كالأرض

كلٌّ نازلٌ

شهبا تبعثر مَن تُصيب شُواظا

صُدِعت فدُكت

من قلوب شفها

الإيمان لم تك كالبغاة غلاظا

....

واستسلمت للحق

ثم تسلمت من كل بحر للمُضي شراعا

واستأسرت أنفاسَها بمرابع

الحق المبينِ لتمسح الأوجاعا

ألقيتم في الجب ذئبا واهما

ونزعتم من خافقيه صواعا

....

ورؤوسهم صعقت غداة وضعتم

جزَع اللقاء على الرؤوس دماغا

وثب العروبة والأمازيغ الأُلى

وكلاهما عن دربه ما زاغا

....

تاهرتُ يا تاهرتُ قومي وانظري

للفرد كيف يزعزع الآلافا

وَهْرانُ منكِ غذاؤها والطينُ إذ لمسوه أنبتَ طهرُه الأسلافا

من آل رستمَ، والقلوبُ بحبها

طارت إليهم كالطيور خفافا

فلترقدي تاهرتُ، واتخذي جفون الآمنين الحاذرين لحافا

....

وأعيذ روحَكِ أن تعيش تفرقا

بعد التآخي أو تُعاش شقاقا

أو أن ترى غردايةٌ تغريدةَ الأطيار تنفُخُ حزنها أبواقا

....

قلبَ الجزائر عتقتك محبة الرحمن فاندفق الهوى نساكا

غمسوك في درن الحروب ليفسدوا دمك الزكي فما استطاعوا ذاكا

....

جاءت فرنسا للحياة وإذ أتت

رجعت إلى باريسها تمثالا

تمشي اعتدالا للهوان وإذ مشت

للعز عالمُها المضرجُ مالا

تُجري المَسيلةُ جدبَها بعروقهم

وخمائل الأغواط ثُرنَ نكالا

....

والقطب في محرابه... يُذكي رحى الإصلاح، ظل يديرها إلهاما

والحرب لم تنشب فصلى قبلها

بالنصر في الوادي الفسيح إماما

كل الجزائر حين هبت للفدى

رأتِ النجاة من الفناءِ حراما

....

فاهتزت الأوراس، كان لمصطفى

ولرابحٍ صوتٌ سرى غضبانا

ومحمدٌ وكريمُ ثم مراد والعربي أزبد بحرُهم بركانا

ونِدا القبائلِ حلَّ في وهرانَ، والفردُ الشمالي يمدُدُ النيرانا

سبعٌ عِجافٌ كم أكلنَ مُنافحًا

عن أرضه حتى استحلنَ سِمانا

سبعٌ تقلدت السعير شعارها

وتشكلت بعد السعير جنانا

للآنَ أصواتُ المجاهد ثرّةٌ

بأذانه أن كبروا، للآنا

سبعٌ رأين الله، صوتا واثقا يهمي على سمع النضال أذانا

سبعٌ ولولا السبعُ لم تعرف حروف الأبجديةِ أعينا ولسانا

سبعٌ جراحاتٌ سطعنَ، وبعدها ستون عاما ضمدت ما كانا

سبعٌ أرين الصبر كيف مرارةُ الأزمان يصنع مرُّها الإنسانا

....

ما ظنكم يا ذا الغزاةُ، أصائبٌ أن تَنصِبوا الظن الكذوب إلها؟

حقا ظننتم بالجزائر سجدةً للظالمين، وسجدةً لفناها؟

أرواحُكم حطَبُ اللهيب وروحُهم سالت على عين اللهيب مياها

مهما رأينا السحر يعظُمُ شأنُهُ

يكفي الحقيقةُ أن تُريه عصاها

ما كان للأعلام أن تكبو ومِن

شعبِ الجزائرِ يُستمَدُّ عُلاها

لم يقبلوا شيئا يُسيِّر أمرهم

في سيرهم للحق إلا الله

جعلوه نَصب عيونهم وتقدموا

والخصمُ تُلبِسُهُ الدروبُ عماها

إن الجزائر هامة ممشوقة

لم تَحنِ للعيش المُذل جباها

تتفيأ الدنيا ظلالَ منافح

عن شمسها لما استُبيح سناها

أواه والذكرى تُصالي مهجتي

لما تمُرُّ بنارها أوّاها

لكنها قرآننا، فتوضّأوا

بلظى الدماء ورتلوا ذكراها

....

ما زلتِ يا أرض الجزائر تعتلين وليس تعلوك السماء علوا

تتذكر الدنيا وقد أدهشتِها

معنى الجهاد ولن تَروم سُلُوَّا

اللهُ أكبر كم تَدكدَكَ باسمها

شرعٌ توهَّمه الصليبُ سموّا

شرع الجهاد امتد حين مددتِ من روح الفداء شرائعا فتقوى

....

ويظل يُقريِكِ السلامَ فهل رددت سلامه المنصب لما حيا

وأنا أسابق لهفتي، أطوي إليك الكون في أنفاس شوقي طيَّا

لا أدّعي إلا الغرام ولم أكن

لولا غرامك في الثناء سخيا

وأنا هنا مهما انسكبتُ قصائدا

حرفا فحرفا لم أطُلكِ رُقيا

لكن خذيني عاشقا والعشق غفار لمن أصفاهُ قلبا حيَّا

يا جنةَ الصحراء والأرياف والأطواد جئتك عاشقا قرويا

علقت في الأفق القَصي حكاية

يتلو ابن نعش سرها وثريا

وقبضت من أثر المحبة قبضةً

وكتبتُني في إثرها قمريا

لما أتيتُ أخذتموني فارجعوا

حمدًا بلطفكم الجميل إليَّا

الحب رابطة، تقدس قلبها

فلتجعلوها قدسنا الأبديا

هذه المعلقة كتبها الشاعر حمد بن حارث الحراصي بمناسبة زيارته للجزائر