مقدمات في وعي الإنسان بالوقت 03

(من موشور علم الزمن والوقت)

علم الزمن والوقت

د.محمد باباعمي

5/9/20241 min read

شجرةُ الخلد... وملكٌ لا يبلى:

ما ورد في كتاب الله تعالى عن الغابرين من البشر، أفرادًا وجماعاتٍ، أممًا وحضاراتٍ؛ مِن لدُن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء سيدنا محمد ﷺ، ليس مجرَّد سردٍ تاريخيٍّ محايدٍ، أو أساطيرَ رمزيةٍ خياليةٍ؛ إنَّها حقائقُ وجوديَّة وكونيَّة ومعرفيَّة؛ بل هي نقطةُ الجمع لكلِّ الحقائق العلميَّة والواقعيَّة، وهي الأرضيَّة الصلبةُ للإحساسِ المرهَف، والإدراك الفطِن، والوعي الرَّشيد؛ والغايةُ من إيراد هذه القصص هو العبرةُ والاعتبار، والذكرى والادّكار:  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة يوسف: 111).

لكنَّ هذه القصص القرآنية لا تقف عند حدّ العبرةِ، وإن كانت هي الغاية والمقصد الأساس ولا ريب؛ ذلك أنها تكتنز بهدايا ربَّانية أخرى لا حصر لها ولا عدَّ، وذلك مصداق قوله تعالى عنها أنَّ فيها: "تصديق الذي بين يديه"، و"تفصيل كل شيء"، و"هدًى"، و"رحمةً"؛ شريطة أن يكون المتلقي لها من "القوم المؤمنين" بالله تعالى، ومن "المؤمنين" بما جاء فيها ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ(سورة البقرة: 26)؛ فإذا خلع الإنسان عن نفسه ربقة الإيمان، أو كان لديه شكٌّ في الحقائق القرآنية؛ انتفى أن يكون أهلا لهذه الهدايا، واستحال أن يكون سهلاً لتلكم المكرُمات: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا، لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(سورة الأنفال: 31).

تتردَّد في تفاسير القرآن الكريم عبارةٌ لها مغزى عميقٌ في بيان ثمرة القصص، وهي قولهم: "في القرآن تفصيلُ كلّ ما بالعباد إليه حاجةٌ"، ثم قد يخصّصون الحاجة في "بيان أمرِ الله ونهيه، وحلالِه وحرامِه، وطاعتِه ومعصيتِه"(الطبري مثلا)، وقد يعمّمون الدلالة ويوسّعونها إلى ما تعنيه عبارة "كلّ شيء" من بُعدٍ دنيويٍّ وأخرويٍّ؛ وبيان ذلك في تتمَّة الآية الكريمة "هدًى ورحمةً"، قال القرطبي: "كونها هدًى في الدنيا، وسببًا لحصول الرحمة في القيامة" (الجامع).

وفي بحثنا هذا عن "الوعي بالزمن وبالوقت لدى الإنسان"؛ نقرأ في قصَّة آدم عليه السلام بخاصَّة، وفي قصَّة خلق الإنسان بعامَّة، في كتاب الله تعالى، ما يمدُّنا بإشاراتٍ واضحةٍ، ويلهمُنا بمعالم ناصعةٍ، بغية أن ننطلق منها في أبحاثنا ودراساتنا، بأن نستخرج منها "فرضيات" للتجربة العلميَّة، رجاءَ أن نختبر بها عِلمَنا، لا أن نختبرها بعلِمنا؛ ذلك أنَّ ما جاء في كتاب الله تعالى هو حقٌّ مطلقٌ، وما يتولَّد عن علم البشر حقٌّ نسبيٌّ.

وإذا اتبعنا هذه "المنهجية الفرضية" الولود، عوضا عن "المنهج الإعجازي" العقيم؛ لا شكَّ أن سيكون لها أثرٌ بالغٌ على كثير من العلوم التي تُعنى بالإنسانِ؛ ذلكم أنَّ هذه العلوم انحرفت حين ألغت الوحيَ من قائمة المصادر، أو جعلته مرجعا ثانويًّا غير موثوقٍ؛ وراحت تبني على غيره كلَّ الحقائق التي تتوصَّل إليها؛ فهي بذلك تصدّق نفسَها وتكذّب ربـَّها وخالقها؛ تُعلي من شأن العقل والحواسّ، وتُدني من شأن خالق الإنسان والقرآن على السواء.

في الجنَّة اكتملَ خلقُ الإنسانِ، بأن وهب الله تعالى له كلَّ ما يجعل منه إنسانًا معياريًّا، حسنَ الصورةِ، سوي الخِلقة، متجاوزا لكلِّ ما خلق الله تعالى من عوالـِم ناطقةٍ وغير ناطقةٍ، بكونه جامعًا لما تفرَّق فيها: من شهوةٍ، وعقلٍ، ونفسٍ، وروحٍ.

وأعظمُ ما وُهب الإنسان هو "ملكةُ الترجيح والاختيار، والحريةُ في تحمُّل نتائج ما يتخذ من قرار، ثم القدرةُ البديعة على التعليمِ والتعلُّم"، وهو بذلك رُشّح بأن يكون خليفة الله في الأرض: "﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾ (سورة البقرة: 30-33).

وقد أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن لا يأكلَ هو وزوجه من شجرةٍ معيَّنةٍ ﴿وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ﴾، وأحلَّ لهما كلَّ ما سواها من نعيمٍ ومشربٍ، ومطعمٍ وملبسٍ؛ ثم وعده أنَّه لا يجوع في الجنة ولا يعرى؛ غير أنَّ إبليس أغراهُ من جهة "الزمن"؛ وزيَّن له الأكل من الشجرة المنهيّ عنها؛ وكان مبرّره صريحًا، بيَّنه تعالى في قوله: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى(سورة طه: 120)، فإذا أنتَ أكلت من هذه الشجرة، فإنَّك ستكون خالدًا أبدًا، ولن يعتريك الفناءُ ولا الموتُ؛ وملكُك سيكون أبديا لا يبلَى ولا يقدُم.

يصوّر سيد قطب هذا المشهدَ الحزين، وهذا الحوار المبين، بين آدم عليه السلام وإبليس اللعين؛ ويقول: "ولكنَّ آدم كان غُفلا من التجارب، وهو يحمل الضعفَ البشريَّ تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان؛ ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان... لقد لمس في نفسه الموضع الحسَّاس، فالعمرُ البشريُّ محدودٌ، والقوَّة البشرية محدودةٌ؛ من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة، وإلى الملك الطويل؛ ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان، وآدمُ مخلوق بفطرةِ البشر وضعفِ البشر؛ لأمرٍ مقدورٍ، وحكمةٍ مخبوءةٍ .. ومن ثم نسي العهد، وأقدم على المحظور" (في ظلال القرآن).

من هذا "المأزق الزمنيّ" استجاب آدم وحواءُ عليهما السلام للشيطان، وانطلت عليهما غِوايته، فسَارعا إلى الأكل من الشجرة "فأكلا منها"، غير أنَّ جزاء الله تعالى كان أسرعَ، بأن حرمَهما الخلودَ، ومنعهما من كلِّ ما يتعلق بالخلود من عدمِ الجوع، وعدمِ العُري؛ أي تحوَّلا إلى بشرٍ كامل البشرية: يشبَع ويجوعُ، يلبِس ويعرى، يفرَح ويحزن... ويحيا ويموت؛ ولو أنهما لم ينزلا من الجنة إلى الأرض، لـما اعتراهما كلُّ ذلك الشقاءُ؛ غير أنَّ النزول من الجنَّة إلى الأرض هي بداية قصَّة الإنسان، ولا تكون نهاية القصَّة إلاَّ يوم الحشر، أمام ربّ العزة، يوم الحساب. وكل ُّ ذلك مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، مقدَّر عند الله تعالى، لحكمةٍ أرادها، ولأمر قضاه؛ قد يُطلع الناس على بعضها، لكنهم لا يملكون معرفة الحقيقة على إطلاقها؛ ومن ثم وجب التسليم لأمر الله عز وجلَّ، والإيمان بحكمة الله ﷻ.

وما نستنتجه من قصَّة آدم عليه السلام هو أنه وزوجُه يدركان "معنى الخلود" وقيمتَه؛ ولا ريب أنَّه مما تعلَّماه من ربهما "وعلَّم آدم الأسماء كلَّها"، أي أنهما يدركان معنى المستقبَل، لكن ليس المستقبل القريب فقط، بل المستقبل القريبُ والبعيدُ، المستقبل الفاني والباقي.

حرص آدمُ وزوجه حواء (عليهما السلام) على اقتناصِ الخلودِ بالأكل من الشجرة الممنوعة، فأغواهما الشيطان، ونسيَا عهدَ ربهما؛ فضاع منهما الخلودُ، ولبسا ثوب الفناء، هما وذريتُها إلى يوم القيامة: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(سورة طه: 115).

وكثير من الآيات في كتاب الله تعالى تُبِينُ عن علاقة وطيدة بين "الوعي بالزمن"، و"الذاكرة والتوقُّع"؛ ذلك أنَّ وعي الإنسان بالأزمنة الثلاثة رهينٌ بالنظام في مستوى الكون، وبالتذكُّر والتوقُّع في المستوى المعرفيّ، وقد تعرضنا لهذا في "مفهوم الزمن" باستفاضة فليُنظَر؛ ويهمُّنا هنا أن نشير إلى العلاقة بين "الذاكرة" و"الوعي بالزمن والوقت".

يقول بورتر في كتابه "تاريخ الزمان": "الإنسان مفطورٌ على حاستي التذكُّر والتوقُّع، إذ إنَّه ينظّم حياته داخل شبكةٍ نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل":

فالحاضر ندركُه بحواسّنا، وقد سماه بعض العلماء "الشريحة الذهبية للزمن"؛ لأنه محطُّ الإرادة والفكر والفعل.

والماضي هو الجزء الذي نستطيع أن نتذكَّره، ولكنَّنا لا نعيشُه على التحقيق.

أمَّا المستقبل فهو الجزء الذي لا ندركه بحواسنا ولا بعقولنا، ولا نتذكَّره بذاكرتنا؛ ولكن نتوقَّعُه، والتوقُّع ثمرة النظام في الوجود وفي المعرفة؛ ولو حصلت الفوضى، لاستحال التوقُّع.

وأنا أعترف أنَّ البحث في قصَّة الخلق، وفي سيرة الأنبياء الكرام في القرآن الكريم، منبعٌ ثرٌّ، ومعدنٌ نفيسٌ، ومنطلق صلبٌ؛ لكلّ المعارف الإنسانية، وفي مقدمتها بحوث الإدراك، ودراسات الزمن والوقت؛ شريطة أن لا ننساق وراء "المدرسة الماديَّة الإلحاديَّة"، وأن لا نجعل من المنهج الإمبريقي عقيدةً (Dogma)؛ وأن نفرّق بين ما هو حقيقةٌ مطلقةٌ ينبغي الإيمان به، وما هو علم نسبيٌّ ينبغي التعامل معه بما انتهى إليه فطاحل علماء المنهج مثل "كارل بوبر"، الذي أبدع في منطق العلم بحقٍّ؛ حين فنَّد رياضيًّا قطعيَّةَ "المنهج الاستقرائي"، وأبان بأدلَّة قوية أنَّ العلم ليس "ما هو قابل للتحقُّق"، بل العلم "ما هو قابل للدحض والتفنيد" (falsifiability)  (منطق الكشف العلمي).

مستقرٌّ ومتاعٌ "إلى حين":

معلومٌ أنَّ الإنسان حين يُنعَم عليه في الحياة الدنيا تجده يعيش بين خوفين لا فكاك عنهما: أن تفنى تلك النعمةُ وتزولُ عنه، أو هو الذي يفنى ويموت فيزول عنها؛ إذ القاعدة الكلية تقرُّ أنَّه "لا تدومُ نعمةٌ على عبدٍ، ولا يدوم عبدٌ في نعمةٍ"؛ وإنما دوام النعمة وخلودُها من صفات الجنَّة الأولى يومَ خُلق آدم عليه السلام، وهي من صفات الجنة الأخرى يوم الجزاء والحساب، لبني آدم جميعًا.

قال تعالى مخاطبا آدم عليه السلام وزوجَه، وقد تلقَّى من ربه كلمات فتابَ عليه: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(سورة البقرة: 36)، وبنفس اللفظ في سورة الأعراف؛ وفي سورة طه قال ﷻ: ﴿ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ (الآية 123).

وبنفس اللفظ والمعنى خوطبت ذرية آدم عليه السلام في كتاب الله تعالى: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ (سورة يس: 44)، ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (سورة الصافات: 148).

ولفظ "الحين" في القرآن الكريم مختلَف في مقدارِه وتقدير مدَّته وقيمته الكميَّة، وقد قسَّمه بعضُهم إلى "حين يوقف على حدّه، وحينٍ لا يوقف على حدّه"؛ وقسَّمه آخرون إلى "حينٍ معلومٍ، وحينٍ مجهولٍ"؛ ولقد عرضت في "مفهوم الزمن" مجمَل الأقوال في تقدير "الحين"، واعتمدت في ذلك على مصادر اللغة، مثل اللسان والقاموس، وعلى التفاسير، بخاصَّة تفسير الزمخشري والقرطبي، وانتهيت إلى أنَّ "الحين اسمٌ كالوقت، يصلُح لجميع الأزمان، طالت أم قصُرت".

والذي نستفيده من هذه المقدمة أنَّ الإنسان يعي فكرة الفناء وعيًا تامًّا، فقد تجد من يكفر بالله سبحانه، ويتنكَّر للحقّ؛ غير أنَّه يعتقد اعتقادًا جازمًا، بحكم العادة والإلف والمشاهدة، أنَّ الإنسان لا يخلُد، وأنه فانٍ ميّت لا محالة؛ وأنَّ الأرض التي يسكنها هي له مستقرٌّ وبيتٌ، وهي له مرتعٌ ومتاعٌ؛ لكن "إلى حينٍ"؛ ولقد قيل: "لو دامت لغيرك لما وصلت إليك" "(1)"

وهذا "الحين" مقدَّر بعددٍ من السنين لا يتجاوز المئة عامٍ إلاَّ قليلاً؛ ذلك أنَّ متوسط عمرِ البشر بعد سيدنا محمد ﷺ ما بين الستين والسبعين؛ قال عليه السلام: " أعمارُ أمَّتي ما بين الستّين والسبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك"(رواه الحاكم وصححه).

" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري ...":

"الخلود" زمن غيرُ متناهٍ، وهو مرادفٌ للأبد، فالخالد هو الذي لا أوَّل له ولا آخر، أي هو الأزل من جهة البداية بلا بدايةٍ، والأبد من جهة النهاية بلا نهايةٍ؛ يقول سماحة الشيخ الخليلي: "وكلام صاحب اللسان يدلُّ على أنَّ الخلْد موضوعٌ لغةً للدوام الأبديّ، وهو مذهب الزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، والشوكاني من المفسّرين؛ وانتصر له أتمَّ الانتصار العلامة البطاشي" (الحق الدامغ).

فالخالق سبحانه وتعالى هو الخالد بذاته، وذلك قوله تعالى في كبريائه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(سورة الحديد: 3) سبحانه هو كما يمدحه رسول الله ﷺ حين يأوي إلى فراشه ويقول: "اللهمَّ ... أنتَ الأوَّل فليس قبلَك شيءٌ؛ وأنت الآخِر فليس بعدك شيءٌ؛ وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيءٌ؛ وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ" (رواه مسلم)

وكلُّ من رام الخلود أو ادَّعاه من البشرِ؛ كان مصيرُه الخزيُ من الله العزيز الحكيم، والقهرُ من الربّ الجبَّار القهَّار؛ وفي كتاب الله تعالى أمثلةٌ لهؤلاء الذين خلعوا عن أنفسهم ثوبَ البشريَّة والعبوديَّة، وتلبَّسوا بلبوس الألوهية والربوبيَّة؛ فجعل الله تعالى مصيرَهم عبرةً لكلِّ معتبرٍ؛ ومن هؤلاء نذكرُ: فرعون، والنمرود، وصاحب الجنتين... وغيرهم من المشركين والكفار عبر العصور.

ونقتصر في بحثنا هذا على مثالِ صاحب الجنتين في سورة الكهف، وقد قصَّ الله تبارك وتعالى علينا قصَّته مع صاحبه المؤمن الفقير، فقال عنه: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَة(سورة الكهف: 35-36)؛ لكنَّ هذا الغرورَ، وهذا الادعاء، لم يدُم طويلاً؛ إذ أنَّ الله تعالى أهلك جنَّته فأبادها وأفناها، وهو ينظرُ إليها بعينيه ولا يملك حراكًا، ويندمُ ولكن لاتَ حين مندَم؛ قال سبحانه: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا، وَيَقُولُ: يَالَيتَنِي لَم أُشرِك بِرَبِّيٓ أَحَدًا(الآية 42).

وفي الحديث القدسي الشريف، شرحٌ عميقٌ لهذه الآياتِ البيناتِ، من مدخلٍ عقديٍّ إيمانيٍّ؛ فقد روى أبو هريرة أنَّ رسول الله ﷺ قال: "قال الله عزَّ وجلَّ: الكبرياءُ رِدائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" (رواه ابن حبان وغيره).

فلا أحدَ من الخلق يملك أن ينازع الله تعالى في ذاته أو صفاته، أو أسمائه أو أفعاله؛ ومن أجلِّ صفات الله تعالى أنَّ الزمن خلقٌ من خلقِه، فهو ﷻ لا يخضع لسلطان الزمن كسائر المخلوقاتِ؛ بل هو سبحانه الذي يجريه كما يشاء، فيوجده من عدمٍ، ويُعدمه بعد وجودٍ؛ ويوقفه على من يشاءُ، ويسرّعه على من يشاءُ؛ ولا تملك العلوم والفلسفات مجتمعةً أن تدرك أبعاد الزمن الغيبية، ولا أن تحيط علمًا بجميع أبعاد عالـَم الشهادة؛ ويبقى الإنسان مأمورا بأن يعتقد أنَّه خَلْقٌ من خلق الله ﷻ؛ وأنه كما وُجد من عدمٍ، فإنه سيموت لا محالة، ثم سيُبعث ويحاسَب، ويخلدُ في الجنة أو في النار، بأمر ربه وحكمه وحكمته، لا من ذاته وقوته:

أمَّا المؤمنون فيقول الله تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(سورة النساء: 57) وأمَّا من لم يؤمن بالله فيقول عنه عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَم يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغفِرَ لَهُم وَلَا لِيَهدِيَهُم طَرِيقًا، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا(سورة النساء: 168-169).

نسأل الله تعالى أن يجعل وعينا بالزمن والوقت، وبالخلود والفناء، سببا للإيمان والإحسان؛ وأن ينفعنا بتذكُّرنا الدائم "للموت"؛ ذلك التذكُّر المحيي الباعث على العمل، لا التذكُّر المميت المقعِد عن العمل؛ مصداقا لأمر رسول الله ﷺ لنا بقوله: "أكثروا ذكر هاذمِ اللذَّات؛ فما ذكره عبدٌ قطُّ وهو في ضيقٍ، إلاَّ وسَّعه عليه؛ ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلاَّ ضيَّقه عليه" (رواه ابن حبان وصححه). كأنَّ هذا الوعي بحقيقة الموت "ميزانٌ دقيقٌ للإنسان العاقلِ" في علاقته بالنعمة وبالفتنة، بالخير وبالشر، بالحق وبالباطل... والله أعلم.

الله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. (يتبع)

د. محمد بن موسى باباعمي

بوشر، مسقط، عُمان

الثلاثاء 29 شوال 1445ه/8 ماي 2024م

---------------------------

[1] - هذه العبارة وردت عن رجل من عامة الناس، لقي هارون الرشيد، فناداه باسمه دون تفخيم أو تعظيم ؛ فقبض عليه الحراس وعنفوه فقالوا له: "وهل تنادي على ابن عمتك أيها الصعلوك؟" ولكن الملك منعهم وقال: "اتركوا الرجل يتكلم" .. فاقترب منه وقال له الرجل: "إني أنادي مالك الملك باسمه ولا يغضب؛ وأقول يا الله فلا يغضب" فقال الملك: "اقترب مني وانصحني، لقد سئمتُ قصائد المنافقين".

              فقال الرجل: "انظر إلى الجهتين؛ هذه قصورهم؛ وهذه قبورهم .. إن الدنيا إذا حَلَتْ؛ أوحلت.. وإذا كَسَتْ؛ أوكست .. وكم من قبور تبنى؛ وما تُبنا.. وكم من مريض عدنا؛ وما عدنا .. وكم من ملك رفعت له علامات؛ فلما علا مات. لو دامت لمن قبلك ما وصلت إليك ... ولو دامت لك ما وصلت لمن بعدك ... ولكنها مادامت لمن قبلك فوصلت إليك ... ولن تدوم لك وسوف تصل لمن بعدك ... لو دامت لغيرك ما وصلت اليك... احـذر أن يلدغك المنصب فلو كان لك لكان لمن قبلك... فمن ابتُلي بـه فليصنع فيه ما يجمِّله في الدنيا والآخرة... الحمد لله لنا رب كبير وكريم".

حرص آدمُ وزوجه حواء (عليهما السلام) على اقتناصِ الخلود بالأكل من الشجرة، فأغواهما الشيطان، ونسيَا عهد ربهما؛ فضاع منهما الخلود، ولبسا ثوب الفناء هما وذريتها إلى يوم القيامة: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي، ولم نجد له عزما".