رسالة إلى أمّي وأبِي، عشيَّة المولد السعيد

محمد باباعمي

9/15/20241 min read

وتعودُ بي الذكرى إلى أعوامٍ خلَتْ، وإلى أوطانٍ نأتْ؛ والأعيادُ تـُهِيج العواطفَ، وتهيّج الذكريات؛ فيستقرُّ بي المقام في "حي باحنينوح"، ووقتُ المغرب يدنو رويدًا رويدًا، ونحن الإخوةَ نملأ الدَّار شغبًا وحيويَّةً، كلٌّ منَّا عينُه على لباسِه الجديد؛ "سروالٌ مفصَّل" لم تفكَّ عُقَدُه بعدُ، وقميصٌ اشتراه أبي بعناية من "سوق غرداية"؛ أمَّا الصبايا الصغيرات "فالفساتين الملوَّنة"، وتسريحاتُ الشعَر، وما يحملن من حقائب؛ ولا ننسَى مَا أعِدَّ لسهرة الليلة من "وجبات خاصَّة"، أبدعتها أنامل أمّي، واعتنت بها لأيامٍ؛ ثم الكعكُ، والشموعُ، والحلوى، والبالونات المزينة، والديكور الجميل...

*******

بُعيد صلاة المغرب بدقائق؛ تنطلق الوفودُ وجهةَ المسجد زرافات زرافاتٍ، هنالك في أعلى البلدة "أعركوب"؛ والجميع سوى النساءُ، يحمل السراج الملمَّع (نِير) بين يديه؛ وحتى الرضَّع يـُحملون من قِبل آبائهم، ليشهدوا ذكرى حدثٍ ليس له مثيل في التاريخ؛ إنها ذكرى مولد المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ ولكم اعتراني في تلك الأوقات المباركات إحساسٌ بأنَّ الكون كلَّه يهلل بمقْدم خير البرية إلى الوجودِ.

والناسُ بين الأزقَّة والطرقات، في بلدتي الحبيبة يزجن؛ يردّدون الأهازيج، بأصواتٍ بعضُها شجيٌّ، والبعض الآخر نديٌّ، وبعضها جهوريٌّ؛ الكلُّ في حفلِ المصطفى مُنشدٌ ومُشيد؛ والإيقاع واحدٌ يخترق السطوح، ويلج البيوت:

"مولودْ النبيْ، محمَّد المصطفى، سِراجْ المنير، صلَّى الله وعَلِيه وسلَّم".

ثم حين نصل إلى الشارع القبليِّ للمسجد، يلقانا رجالٌ كُمَّلٌ متطوّعون ببشاشة، يردّدون معنا لـحنَنا؛ ويطفئون الشُّعلة التي تعلو "السّراج" بحركاتٍ ظريفةٍ؛ ويأخذون "نير" مِن بين أيدينا، فيفرغون الزيت في وعاء كبير "أمناس".

ليكون ذلك الزيت هو ضوء المسجد لعام كامل، واليوم يباع وتدفع به فاتورات الكهرباء؛ ولا ريب أنَّ محمدا هو نور الوجود، ورمزية الزيت كرم من محبيه وجُود.

*******

وبمجرَّد بداية شوطِ العودة، يتغيَّر اللحنُ والإيقاع، وتتبدَّل الكلماتُ والنغمات:

"اللهم صلّ وسلَّم *** على سيدنا محمد،

اللهم صلّ وسلَّم *** على اجْمَاعَتْ الأنبياء،

اللهمَّ صلّ وسلَّم *** على أبينا آدم،

اللهم صلّ وسلَّم *** على أمنا حواء...

اللهمَّ صلّ وسلَّم *** على سيدنا إبراهيم...

اللهمَّ صلّ وسلَّم *** على اُمْنَا عِيشة

اللهمَّ صلّ وسلَّم *** على سيدنا بوكَّر

أمَّا الجموعُ فيردد اللازمة: "اللهمَّ صل وسلم"؛

وأما الواحدُ منهم، حسبَ اطلاعه على أسماء الأنبياء والمرسلين، والصحابة المكرمين، وأمهات المؤمنين؛ يُكثر أو يقلُّ من ذكر الأسماء؛ مرفوقين بالصلاة والسلام على خير مَن أمر الله بالصلاة عليهم.

*******

ونصلُ البيت، والأمَّهات يترقَّبن دخولنا بشغفٍ شديدٍ؛ ليبدأ الاحتفالُ داخل البيتِ، مع الحرص على عدم التوقُّف عن الصلاة والسلام على النبي الحبيب جهرا؛ ولقد تُقام للأبناء مسابقاتٌ لحفظ المولودية، أو الأناشيد الدينية التي تشيد بالمصطفى؛ أو مسابقات في السيرة النبوية؛ وكلُّ ذلك في جو بهيج، وقلوبٍ منشرحة، ووجوه مهللة.

*******

وإن أنس لا أنسى صورةَ والدي العزيز موسى، وأنا اليوم بعيدٌ عنه بآلاف الأميالِ؛ ذلك أنه في جميع أوقاته، وفي الأعياد بخاصَّة؛ تسَّابق عبراتُه عِباراته؛ وكلَّما استشعر نعمةً، أو رأى في أحدٍ من أهله خيرًا، ذكرَ اللهَ واغرورقت عيناه دمعًا؛ وهو لا يتعَبُ من تذكيرنا بشُكر الله المنعم، وبتذكُّر من حُرمها من الأقربين والأبعدين.

أمَّا أمّي الغالية عيشة، ففي يوم العيد، وفي بحرِ عمرُها المديد؛ هي مثالٌ للحبّ الطاهر الأبيّ، ونموذجٌ للنفع وزرع الحبور في ربوع الدار؛ لا يعرف اليأس والقنوط إلى قلبها سبيلاُ؛ ففي أحلك الأوقات تجدُها شامخةً، ثابتةً، مَهيبةً، تنطق بالحكمة وتحملك على الصبر؛ أمَّا أوانَ الفرح، فهي أحرص الناس أن لا يختلط بمعصيٍة، أو يفسده ما يَشين من أعمال القلوب، ومن أعمال الجوارح.

*******

إلى هنا، يقف بي اليراع ويعصي أوامري؛ ذلك أنَّ القلب مني يغمُره الحنين والأنينُ؛ والعينُ تدمع ثم تجفُّ؛ والذكرياتُ تملأ الجوَّ في بيتنا الحاني بسلطنة عمان؛ محاولين – مع أهلي وأبنائي - تقليدَ ما هنالك بما بين أيدينا هُنا؛ واثقين أنَّه شتان بين القرب والبعد، بين الفقد والوجد... وحقَّ لنا أن ننشد مع الأمير الصنعاني:

سلامٌ على تلك الديار وأهلِها *** ديارٌ بعين القلبِ صرتُ أراها

لئن بعُدَت عنَّا، وشطَّ بها النَّوى *** فما شطَّ عن قلبِ المحبّ هواها

فما لذَّ لي شيءٌ سوى ذكرُها ولا *** تـملَّك قلبي المستهامُ سـواها