هذي سمائل والآثار شاهدة...

(من ذكريات زيارتي لسمائل الفيحاء)

محمد باباعمي

3/14/20241 min read

"سمائل الفيحاء"، "سمائل الحسن والبهاء"؛ لا يُعرف هل الشعر ينسب إليها فيقال: "شعر سمائل"، أم أنَّها المنسوبة إلى الشعر ولا فخر، فيقال: "سمائل الشعر"؛ سيان، لا فرق، ذلك أنَّ كلَّ ما في سمائل شعرٌ: سماؤها وهواؤها، ماؤها وترابها؛ بل أهلها وأطفالها، ونخيلها وآثارها؛ فأينما وليت وجهك قابلتك قصيدةٌ من عيون الأدب، وهتفت لك أبيات من ثمرات فحول الأدب.

ولكَم حوت سمائل من علماء وأيمة عبر تاريخها المجيد؛ فمن الصحابي الجليل الشاعر مازن بن غضوبة السعدي، الذي لقي رسول الله ﷺ، ونقل منه الإسلام إلى عُمان، بلا حرب بل بسلام وأمان، عبر سمائل الفخار؛ وله شعرٌ بديعٌ؛ وما أروع قصيدتة التي استهلها بقوله، مادحا رسول الله فداه روحي:

إِلَيكَ رَسولَ اللَهِ خَبَّت مَطيَتي***تَجوبُ الفيافي من عمانَ إِلى العَرجِ

لتشفعَ لي يا خَيرَ من وَطئَ الحصَا***فيغفرَ لي ربي فأَرجعَ بالفَلجِ

ولأستاذنا الدكتور محمد ناصر الجزائري، قصيدة عصماء عنونها بـ"مازن من المزن"، ألقاها في مؤتمر الفقه الإسلامي بعمان، قبل عقود من الزمان.

وشعراء هذا البلد المعطاء، ممن يتنقل الزائر بين معالمهم، وديارهم، ومكتباتهم، ومساجدهم... واحدا تلو الآخر، في أسرع من رجع الصدى؛ نذكر منهم: الإمام الرضي محمد بن عبد الله الخليلي، وجده المحقق سعيد بن خلفان الخليلي، وحمد بن عبيد السليمي، وسالم بن حمود السيابي... حتى إنَّ العلامة سليمان باشا الباروني، تلميذ قطب الأيمة، يعدُّ منهم، ذلك أنه استوطن سمائل لمدة، وهو في منفاه، وفي سمائل بيتٌ يعرف ببيت الباروني.

ومن الشعراء المحدثين نذكر الشاعر أبو سرور، وسيف الرواحي، وموسى العامري، وهو الذي استضافنا، وغمرنا بكرمه، وألقى قصيدة في محفل الجامع الكبير، عن غزة وعن المقاومة، حق به أن سماه الحضور: حسان عمان؛ وهو الاسم الذي عرف به أبو مسلم الرواحي من قبل.

يقول أبو سرور:

هذي سمائلُ والآثار شاهدةٌ***والحالُ أصدق من حُبٍّ يُفدّيها

قد كانت الروحَ للإسلام إذ طلعت***شموسُه في سماءٍ جلَّ مُنشيها

أكرِم برائدها الطائي مازنِها***زاكي الأرُومة، من أعلى أعاليها

أما موسى العامري، فيقول في المقطوعة الغنائية "لسمائل أشتاق"، وهي ضمن ديوان بعنوان: "سحر الخمائل في حب سمائل" أهداه لي مشكورا مأجورا، يقول:

(لسمائل) أشتاقُ***فودادها ميثاقُ

هي درَّة مكنونةٌ***قد صاغها الخلاَّقُ

(فيحاء) قلبي هائمٌ***نحو العلا سبَّاقُ

***

وكانت لي زيارة عائلية إلى سمائل، بدعوة كريمة من أبناء الأرومة والكرامة؛ يمثلهم أحسن تمثيل الشاعر الأديب موسى بن قسور العامري؛ فـ"ما قصَّر" بـ(اللهجة العمانية)، لكنه تكرَّم وتفضَّل؛ ولقد كان يوما مباركا؛ يوم السبت الثامن والعشرين من شعبان 1445ه الموافق للتاسع من مارس 2024م؛ ذلك أني خرجت من الخوض بمسقط صباحا؛ وكانت مسافةُ الطريق ساعة إلاَّ عشر دقائق؛ فاستقبلنا الكريم في بيته على فطور عماني دسمٍ، طيب المذاق، مع شباب من خيار شباب المدينة، طلبوا مني تسجيلاً لرمضان، ثم زادوا له تسجيلا آخر؛ فاخترت للأول عنوان: "الوقت في رمضان"، وللثاني: "بقاء أثر رمضان لما بعده".

ثم تجولنا بين معالم المدينة الطيبة، بداية من قبر الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السعدي الطائي، وهو واقعٌ على سفح جبلٍ، بين النخيل وخُضرة الأرض بأنواع النباتات؛ وعلى جنبه "فلج" حيٌّ مدرار؛ ومنه انتقلنا إلى مسجد مازن، وهو على أصله القديم، لكنه رمم ترميما راقيا؛ فصلينا فيه ركعتين، ثم دعونا الله تعالى بما عنَّ لنا؛ ذلك أنك تكون في مكان تعبَّد فيه صحابي رأى رسول الله ﷺ، ليس بالأمر الهين، فتكاد اليد الحانية للحبيب المصطفى تلمس شغاف قلبك وتجد روحه بين جنبيك وتحسه، ولكنك تعجز عن التعبير والبوح، إذ لم يحن بعد أوان البوح؛ وهذا يذكرنا بجامع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) في استانبول، وكيف يحتفل الناس به في الجمعة وفي الأعياد والمناسبات.

ولسمائل قلاع لها تاريخ، زرناها وشهدنا معالمها؛ ولقد كانت قبل عقود قلب عمان النابض؛ حتى إنَّ سمائل تُعرف بـ"حلقوم عمان"؛ فمن خلالها يتنقل الناس بين الداخل والساحل؛ ومنها يسافرون إلى بقاع العالم الفسيح؛ وهي في جغرافيتها الواقعة بين الجبال، على شكل "ممر بين جبال شاهقات" بخاصة سلسلة الجبل الأخضر.

ولم نغفل زيارة وشهود آثار الأيمة العظام: المحقق الخليلي (بيت السبحية)،فهو الآن لحفيدة الإمام ومنهم الشيخ الشاعر أمير البيان عبد الله الخليلي، ومن أعلام سمائل الشيخ حمد بن عبيد السليمي، والشيخ خلفان بن جميل السيابي... وغيرهم كثير؛ إلى أن انتهينا عند مكتبة عامرةٍ، هي وقف للعلامة: حمد بن عبيد السليمي، وهي تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، يديرها حاليا حفيد الشيخ، وهو العالم عامر بن بن سعيد بن سيف بن حمد السليمي؛ إنه رجل فاضل، أكرمنا بعشاء في بيته، وتكرَّم بتقديم المحاضرة، وهو الجامع بين الأدبين: أدب الأخلاق الفاضلة، وأدب العلم الرصين.

وكان الدرس المبرمج في جامع السلطان قابوس، جامع آية في الجمال، روعة في الجلال؛ به فريق من المشرفين والقائمين، لهم نشاط مشهود، وكرم معهود؛ ومنه ندواتٌ أسبوعيةٌ تعرف بـ"درس سمائل المركزي"؛ وخلالها بُرمج لي هذا الدرس، أو المحاضرة، حول: "ما لا نعرفه من رباط العلم وجهاد العمل، في فكر العلامة الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش (قطب الأيمة)".

ولله الحمد، كان الحضور مميزا، وكان الاهتمام بالغا؛ وإن يكن لها من فضل ففي موضوعها، وهو قطب الأيمة، والعمانيون يجلُّونه ويحبُّونه ولا يعلون عليه عالما من العلماء أيا كان؛ وليس الفضل في ملقيها ومحاضرها؛ إذ حين يكون بين يديك لحم من الطير، أو من الضأن؛ فلا مزية لك أن يكون الطعام الذي تطبخه زكيا شهيا طيبا.

ثم كان لنا عشاء وسمر، مع سراة القوم، ومع أهالي البلد؛ ولولا مخافة الإطالة لذكرت بعضهم بالاسم والوسم والرسم؛ ولكن لنا عودٌ على بدءٍ بحول الله من خلال المذكرات المفصلة، وفيها ترد التفاصيل ولا حرج.

وغادرت سمائل، على أمل العودة، وكانت السماء تلقي وابلا من الماء، وتمطر أمطار طوفانية، ونحن نتفاءل بذلك فأل الخير؛ لعلَّه عام خير وبركة، على المسلمين أجمع، وعلى المرابطين في ثغور الإسلام، من أهلنا في غزة؛ وعلى أهل سمائل وعمان، وأهلنا في الجزائر ومزاب؛ الدعاء موصول، والدعوة ممتدة... إلى أن يرضى الله تعالى عنا، سبحانه له الحمد قبل الرضا، وحين الرضا، وبعد الرضا...

وكم في الأسفار من كنوز ومن عبرٍ...

لولا العجزُ لكان العمر كلُّه سفرُ...

د. محمد بن موسى باباعمي المزابي الجزائري

يوم الثلاثاء 1 رمضان 1445ه/12 مارس 2024م