ذاكرة عُمان

(مراكز البحث العلمي، نقطة الانعطاف في حضارة الأمم)

محمد باباعمي

3/5/20241 min read

يقول فيلسوف الحضارة مالك بن نبي: "إنَّ الماء لا يسقي الأرضَ التي تعلوه"، فإذا كنَّا – نحن المسلمين اليومَ – معطَّلين فكريًّا، متخلّفين حضاريًّا، مشوَّهين ثقافيًّا؛ فإنَّ أمل أن نَسقي الأرض خيرًا، ونروي الخليقة بِرًّا، يتبخَّر من سفوح الوديان والبحار، ويستحيل "هباءً منثورًا" خاتمته - لا محالة - إلى اندثار.

فنحن لن نكون قدوةً للعالـَم إلاَّ إذا تفوَّقنا عليه، كما تفوَّق سيدنا محمد ﷺ عليه، في جميع مناحي الحياة؛ ولن ننشر بركاتِ ديننا الحنيف بين الناس إلاَّ إذا بلغنا مقامات "العهد الراشد"، و"العصور الذهبية" من تاريخنا التليد العتيد؛ ذلك أنَّ الكافر والمشرك (من أدغال الأمازون إلى جبال الهيمالايا، ومن أغوار إفريقية السوداء إلى مواطن سواد الناس في الغرب الأوروبي والأمريكي) حين تُعرض على هؤلاء صورةٌ من الإسلام مشوَّهةٌ، يصنعها "مهندسو الاستعمارِ" بعنايةٍ، وينفقون عليها المال الكثير بلا هوادةٍ؛ من مثل صورة الإرهاب، أو الهمجية، أو التخلف، أو الوسخ، أو التبعية، أو القابلية للعبودية ...

حين تعرض على الغافل من الناس تلكم الصورة، ثم لا يُسلِمُ لله دينه ولا يلينُ، ولا يفتح قلبه لديننا وقرآننا المتين، ولا يشتاق إلى لقاء رسولنا محمد الأمين... وسبب ذلك أنَّه باقٍ على "فطرته"، وأنه التقى بصورة مشوَّهة من الحقّ فردَّها ومجَّها ثم رمَاها؛ ولم يلتق بصورة ناصعة فتنكر لها وعارضها؛ أي إنه على الفطرة السليمة، والفطرةُ بطبعها تنجذب نحو الخير والحسن والجمال، وتنفر من الشر والقبح والضَّلال.

فمن باب "العلم" تلج "الرّجْلُ الأولى" لأمَّتنا إلى عالـَم التمكين، ومن نافذة "المدرسة والجامعة والجامع" تتسلَّل الأشعة الأولى إلى "عالم الاستخلاف" في ربوعنا؛ ومن قلب "مخابر البحث والدراسة" يتحقَّق لنا ما وعدَنا به ربُّنا من نُصرةٍ وعزَّةٍ، ومن حضارةٍ وانتشارٍ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

الوصف الأليَق بالعصر الذي نحن فيه هو أنه "عصر مراكز البحث العلمي" (think tank) بلا منافسٍ؛ فكلُّ شيء من "دنيا الناس" يُدار بمراكز للتفكير رفيعةِ المستوى؛ حتى الاستعمار والهيمنة لها مراكز تطبخ فيها "الحنظلَ والزَّقوم"، وتُطعم بهما "الجياع والرعاع"، وتسقي الغافلين من العالـَمين.

ومن جملة ما عَنيت به الدول الغربية: "مراكز للبحث في التراث الإسلامي والشرفي"، أو ما يسمَّى "ما وراء البحار" (overseas)؛ ذلك أنَّ التحكُّم في الوثيقة يورث التحكُّم في المصير، وقد تتحوَّل الوثيقة إلى وسيلة للابتزاز أو لتحريك الفتن بين المجتمعات والدول؛ ولذا حرص الاستعمار – يوم كان جاثما على صدورنا – على تأسيس "متاحف ومكتبات" في مستعمراته؛ ثم بحجة الحفاظ على مقدَّرات تلك البلاد، راح يجمّع ما يقع بين يديه من وثائق وتحفٍ، ويختار منها ما يرسل إلى العواصم الأوروبية المستعمِرة من كل غال ونفيس، وما يبقيه – مما تبقى – في البلاد الشرقية المستعمَرة، من كل رخيص وخسيس.

ولا ريب أنَّ ثمة جهودٌ حثيثةٌ في مختلف أراضي المسلمين، للخروج من هذه الورطة التاريخية؛ وذلك بتأسيس "مراكز للبحث"، و"جامعات"، و"معاهد"، و"متاحف"... وطنية وأهلية... مراكزَ مهما أنفِق عليها من مال وجهد وعقل، ستبقى صغيرةً باعتبار الحاجة المتزايدة، وبالنظر إلى التأخُّر الذي ترمي إلى استدراكه؛ ولكن "أن تبدأ متأخّرا، خيرٌ من أن لا تبدأ أبدًا".

واليومَ، بلغت بعض هذه الجهود حدًّا قياسيًّا، أي أدركت ما يعرف بـ"حالة الفن" (state of the art)؛ ولا نزال نكتشف مثل هذه القفزات النوعية، قفزاتٍ تُذكر فتُشكر؛ فيَستبشر المترقّب على إثرها خيرا، ويترقب المؤرَّق من خلالها الفجرَ الصادق، الذي بحول الله سيعقُب الفجر الكاذب، مهما طال.

*******

"ذاكرة عُمان" هي إحدى هذه الطَّفرات في تاريخ أمَّتنا المعاصرِ؛ وقصَّةُ اكتشافي لها تبدأ من اسمٍ عزيزٍ علينا، دأب على خدمة التراث الرصين، بمنهج متين، منذ عقود من الزمان؛ ولقد تعارفنا في هذا السبيل، فتكاملنا وما تقاطعنا؛ بل لم يزل الواحدُ منا يشير إلى الآخر بالبَنان، ويلهج ثناء عليه بعظْمة اللسان؛ إنه الدكتور الشيخ "سلطان بن مبارك الشيباني"؛ ولقد صدق من قال: "لكلّ امرئٍ من اسمه نصيبٌ"؛ فالدكتور الفاضل "سلطان" سلطانٌ في دولة العلم الجادّ، إمامٌ في محراب البحث الطويل النِّجاد؛ ولولا أنه ممن يُبغض التهريج وأمواج السطح، ويعشق الهدوء وأمواج القاع؛ لكتبتُ عنه شهادةَ صدقٍ، هو أهلٌ لها؛ وهي أهلٌ له؛ فلْنذرها ليوم يلقى فيه ربه وهو عنه راض.

إذن، كانت دعوةً كريمةً منه، وقد زار جناحَ "جمعية التراث" في معرض مسقط الدولي للكتاب؛ وسأل عني فلم يشأ الله أن نلتقي؛ ثم سأل عن رقم الهاتف ليتواصل معي هنا في عُمان؛ وما هي إلاَّ أيامٌ حتى استجبت لدعوته الكريمة، وتوَّجهت وجهة "السيب"، حيث المقرُّ الجديدُ للمؤسَّسة؛ ولـمَّا اقتربت من البناية، وبنظرةٍ أولية من الخارج، عرفتُ أنَّ "الذاكرة" قطعت أشواطا وتفوقت على "من كان سبق"، وأنها مؤسَّسة جديرة بالتقدير من أوَّل نظرة، وهي والله كذلك إلى آخر نظرةٍ.

البنايةُ تتربَّع على أرض بحجم عشرة دونم (عشرة آلاف متر مربع)؛ وهي من سَخاء من المحسنين المنفقين، تعتمد على التبرعات والهبات والعطايا؛ و"ذاكرة عمان" تأسَّست رسميا عام 1435هـ /2013م؛ وكان مقرها الأوَّل في شُقَّة بها غُرفتان؛ أمَّا المقرُّ الجديد، فيحتوي على: صالة للاستقبال، وقاعة للمحاضرات، ومكتبة كبيرة، ومخبر لترميم المخطوط، وقاعة للفهرسة والتصوير، ومكاتب للباحثين، ومتجر لمطبوعات المركز...

أمَّا وأقسام المركز فهي أربعة:

- "قسم البحث والجمع والتوثيق": يهدف إلى الحفاظ على الهوية الثقافية وتسهيل الوصول للمعلومات التاريخية وإتاحتها للباحثين.

- "قسم تحقيق التراث والدراسات والنشر": ويرمي إلى فهم وتوثيق التراث، وإجراء الدراسات العلمية، ونشر النتائج لتعزيز الوعي الثقافي والتاريخي.

- "قسم حفظ البيانات، والتصنيف، والفهرسة": يعنى بتوثيق وتنظيم المواد الثقافية والتاريخية لضمان سهولة الوصول والاستفادة المستقبلية.

- "قسم الخدمات الرقمية والإعلام والتواصل": يعمل على تقديم الخدمات الإلكترونية، واستخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتعزيز الوعي بالتراث وتسهيل الوصول إليه؛ وهو منقسم إلى جناح المعلوماتية، وجناح الذكاء الاصطناعي.

ولقد رمـَّمت "ذاكرة عمان" إلى اليوم أكثر من أربعة آلاف مخطوط (4000)، ترميما فنيًّا رفيعا، في ورشة كبيرةٍ بديعةٍ، مجهَّزة بأحدث الوسائل وأغلاها؛ من التعقيم إلى التجليد، وحتى الورق القديم يصنَّع في الورشة من موادَّ أولية؛ والقائمون على المركز متخصصون من الدرجة العالية؛ ولذا فقد أنقذوا الآلاف من مخطوطات عمانَ ووثائقها؛ ولا يزال العملُ قائما، وأصحاب المكتبات والخزائن قد يوقفون مخطوطاتهم للمركز، أو يستعيدونها بعد أن ترمم وتعقم وتصور؛ ولهم الخيار.

سألتُ عن نسبة من يوقف مكتبته للمركز، وعن نسبة من يسترد كتبه بعد صيانتها وتصويرها، قال الدكتور سلطان: "النسبة هي النصف: نصفٌ يستردها، ونصفٌ يوقفها".

ويصدر المركز مجلَّة بعنوان: "الذاكرة"، ذات عرض فني جميلٍ، ومحتوى تراثي أصيلٍ؛ وهي متوفرة في شبكة التواصل للتصفُّح والتنزيل؛ ولا بدَّ من ملاحظة أنَّ المجلَّة اختارت لنفسها "الصرامة العلمية" مَسلكا وسبيلا؛ وقد اصطبغت بصبغة الدكتور سلطان الشيباني، في تحقيقاته العميقة الدقيقة، وهو فيها لا يداهن ولا يخاتل؛ وإنما يبدي ملاحظاته بأسلوب مباشر، كفيلٍ بالدفع بعجلة تحقيق التراث ونشره وتصنيفه والبحث فيه؛ إلى مدى بعيدٍ؛ فالعلم لا يعرف المداراة ولا المجاراة، ولا يعترف بالاعتبارات ولا بالتصنيفات؛ ومن ذلك مثلا أنه نقد نسخة "التفسير الميسر" للشيخ سعيد بن أحمد الكندي، وذكر ما يسجل على المحققين: "مصطفى بن محمد شريفي، محمد بن موسى باباعمي" من إيجابيَّاتٍ وسلبيَّاتٍ، وكذا ما يسجل على الجهة الناشرة؛ فأجاد وأفاد، ولمثل هذا تشدُّ الرحال، ولا ندم.

ثم إنَّ "ذاكرة عمان" قد نشرت أكثر من مائتي وستين عنوانا (160)، ما بين كتيب صغير وكتاب كبير، وما بين جزء واحدٍ وعدة مجلدات؛ والحقَّ أقولُ: إنَّ جودة الطباعة لا تخفى، على ورقٍ أصفر صقيلٍ، خفيف ومن النوع الرفيع؛ مع إخراج بديع، من فنيين ونسَّاخ من لبنان بخاصَّة، لا يشقُّ لهم غبارٌ، ولا يقدر أحد أن ينسج نسجهم، ولا أن يسَّابق في حلبتهم.

*******

ولا بدَّ أن نشيد بآصرة النسب العلميّ، والمصير المشترك، والأهداف والغايات المتشابهة، ما بين مؤسّسات التراث في الجزائر، ومؤسّسات التراث في عمان، بخاصّة المؤسّسات الثلاث في مزاب: جمعية التراث، وجمعية أبي إسحاق، ومؤسسة عمي سعيد.

ومن هذا المدخل لا مفرَّ من مدّ جسورٍ، وعقد مواثيق، وتأسيس مشاريع، وبناء مخططات... بين الجانبين؛ ولعلَّ طباعة "دليل مخطوطات الإباضية" في مراحله المختلفة، بات ضرورةً أكيدة؛ فـ"فهرسُ مخطوطات عُمان" قد طبع منه ما يزيد على عشر مكتبات؛ أمَّا "دليل مخطوطات وادي ميزاب"، فلم يطبع منه شيءٌ إلى حد الساعة، رغم أنه قد أنجز فيه الكثير.

ولا يمكن أن نغفل "معجم أعلام الإباضية: قسم المشرق" في صيغة موسَّعة؛ ذلك أنَّ "قسم المغرب" قد طبع من قبلُ طبعات كثيرة، وهو الآن يحيَّن، ولعله سوف يصدر في حجم هو ضعف الحجم الأوَّل. وأرى ضرورة أن تنسق الجهود، بعد أن يتم تحيين قسم المشرق، ونشره؛ وذلك بأن يجمع المعجم في سفرٍ واحد، بعدَّة مجلدات، تحت مسمَّى: "معجم أعلام الإباضية: قسم المشرق والمغرب"، ولا يمكن أن يُسكت فيهما عن اليمن، وزنجبار، ومصر، والصين، والأندلس... وغيرها من البلاد التي وجد فيها الإباضية عبر التاريخ.

والحقُّ أنه لا بدَّ من تأسيس مرجعية علميَّة عمليَّة، تعنى بالتراث والفكر الإباضي، على أن لا تكون مجرَّد مكتب أو تجمُّع إداريّ شكليّ؛ بل الواجب أن يكون تجمُّعا يتحمَّل مسؤولية التنسيق والتأهيل، ويصوغ خرائط وخطوات لإبراز ما اندرس من آثار المذهب، ودراسة ما هو معاصرٍ، والدفع به إلى مقامات عالمية كونية، تقوم على نظرية الشيخ علي يحيى معمر: المعرفة، والتعارف، والاعتراف.

*******

ولقد كتبنا في مقدمة "معجم مصطلحات الإباضية" – المؤلف في المغرب، والمطبوع في المشرق - هذه العبارات، وها اليومَ نقطفها يانعة غضة طرية، لنهديها القارئ الكريم مع إتمامنا لزيارة "ذاكرة عمان"؛ وفي عمان يقولون: "لا قعود بعد العود"، أمّا فضيلة الشيخ ناصر المرموري رحمه الله، فقد عدَّلها وقال: "بعد العود يحلو القعود"، ونص المقدمة والعبارة ما يلي:

" تتطلَّع الأمَّة الإسلاميَّة اليومَ إلى منظومة معرفيَّة صادقة، تحقِّق لها مداخل دقيقة لوعي الذات وفهم الآخر، ومن المؤكَّد أنَّ الموسوعات والمعاجم التي تحمل رسالة قرآنيَّة توحيديَّة؛ هي من أبرز وسائل هذه المنظومة. وما هذا المعجم - الذي يهدف إلى التأثير والتأثُّر - إلاَّ لبنة في هذا الإطار، يؤسِّس لبديل فكريٍّ معرفيٍّ، يتجاوز ما كرَّسته السياسات بمختلف مشاربها عبر التاريخ.

إنَّ ما ورد في هذا المعجم من المؤتلف والمختلف؛ يدلُّ في شقِّه الأوَّل على وحدة أصول المسلمين ووحدة مصيرهم، وفي شقِّه الثاني على ثراءٍ وتنوُّعٍ، يَعرف للآخر قدره، ولا يدَّعي الصواب المطلق. فالاجتهاد العلميُّ في هذا السبيل حريٌّ أن ينقل العقل المسلم إلى مكانته الحضاريَّة التي خلق من أجلها".

د. محمد بن موسى باباعمي

مكتبة الجامع الأكبر، السلطان قابوس

الاثنين 23 شعبان 1445ه/4 مارس 2024م

الكتب التي أهديت لي في المركز، من كنوز المعرفة، وهي من منشورات "ذاكرة عُمان":

1. ألف باء المخطوطات العمانية (موسوعة مصوَّر) تأليف سلطان بن مبارك الشيباني

2. خزائن المخطوطات في عمان، التعريف بها وبنوادرها (موسوعة مصوَّر) تأليف فهد بن علي السعدي

3. فهرس مخطوطات خزانة الشيخ محمد بن سالم الرقيشي، تأليف فهد بن علي السعدي

4. مفتاح الباحث إلى ذخائر التراث الفكري العماني، تأليف سلطان بن مبارك الشيباني

5. تاريخ الطباعة والمطبوعات العمانية عبر قرن من الزمن، تأليف سلطان بن مبارك الشيباني

6. مشارق أنوار العقول للشيخ نور الدين السالمي، تقديم سماحة الشيخ أحمد بن حمر الخليلي، تقديم ومراجعة تأليف سلطان بن مبارك الشيباني.