من آخر وصايا أستاذي الدكتور محمد ناصر
د.محمد باباعمي
9/24/20251 min read


انتقل إلى رحمة الله أستاذي ووالدي الدكتور محمد ناصر، فبكاه الداني ورثاه القاصي، وشهد بفضله القريبُ والبعيد؛ وهو الذي ملأ الدنيا أدبًا، وغمر الناس إحسانًا؛ وكان "نقطة الجمع" لما تشتت عند غيره؛ كان ربَّ أسرةٍ لأبناء عشرة بررة، ولم يشغله تأليفُ الكتب عن إعدادِ الرجال؛ أعطى لمجتمعه بسخاءٍ، وخدم وطنه بتفانٍ؛ هو حاملُ هم الأمَّة مشرقا ومغربا؛ فسبحان الله الذي "جمع العالم في واحدٍ".
زرتُه في العطلة الشتويَّة الماضية، شهر جانفي المنصرم، قبل أن أغادر إلى سلطنةِ عمان؛ رُفقة سبطه الوفي العزيز عليَّ جابر ناصر بوحجام؛ فكان لقاءً حميميًّا مسجَّلاً ومصوَّرًا؛ ولقد شاء الله أن يكون لقاءَ الوداع، وأن تكون تلك النظرات هي آخر ما يتبقَّى لنا من الدكتور بعد أكثر من ثلاثين عامًا من الرفقةِ والصحبةِ، بل من التتلمذِ والخدمةِ.
قلت للدكتور:
"أنقل عبارتك الحكيمة، ولقد جعلتها شعارا لحياتي: ليس الشأن في كثرةِ العلم، وإنما الشأن في التوفيق الذي يصحب ذلك العلم"
فقال:
"إذا أسدى أحدٌ خيرا، عليه أن يتذكر مقولة هارون الرشيد: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك" وكان الشيخ أبو اليقظان دوما يردد العبارة الشهيرة: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل".
وعلى الواحد منا أن يعمل وفق هذا الشعار، ولا ريب أنَّ الله تعالى سيوفقه في حياته ومسيره... لأنَّ الأمر جدٌّ وليس هزلا، وهو عسير وليس يسيرا، ذلك أنَّ الإنسان في حياته يعيش في مختبرٍ، ولاسيما إذا أقبلت الدنيا عليه، وأخطر ما يكون الإقبال على الإنسان "الشهرةُ"، والشهرةُ أصعب من المال؛
ومن أقبلت عليه الدنيا من باب الشهرة فليتق الله؛ وهو إما يخاف الله أو لا يخاف الله؛ فإن كان عمله لغير الله انقطع وانفصل، وإن كان لله دام واتصل".
ثم قال رحمه الله برحمته الواسعة:
"نقِل عن أحد زعماء الإصلاح قوله ناصحا: "اطهلَّوا في عْرُوضنا" (بالدارجة)؛ وهذه العبارة تحمل معاني كثيرة عميقة؛ فالواحد منا حين يعمل في مشروع عامٍّ أو خاصٍّ، ليعلمْ أنه لا يمثل نفسه، وإنما يمثل عائلتَه وقومَه وثقافتَه وانتماءَه... مثلما تقول العامَّة: "الله يرحم والديك"؛ ولهذا الدعاء مغزًى كبير؛ أي الوالدين اللذين ربياك...
وليتحرك المسلم دوما في ظل هذه الكلمة: "الله يرحم والديك"؛ وليعتقد أنه يمثل والديه، ومشايخه، وقومه، ووطنه... الخ. ذلك أنَّ هؤلاء جميعا لهم حقٌّ فيك، فهم الذين ربوك لتكون ما أنت عليه؛
وحين يحمل الكاتب القلم ليكتب، فإنه يكتب بوحي هذه التراكمات؛ وكذلك حين يتكلَّم، أو يعلّم، أو يعمل، فإنه يفعل ذلك بناءً على هذه التراكمات؛ وهو مع ذلك إن عمل خيرًا فلنفسه، وإن عمل شرًّا فلنفسه":
وذكر لي شهادة عن الشيخ إبراهيم القرادي رحمه الله فقال:
"له أفق واسعٌ، وزادَه في أفقه معرفتُه الواسعة باللغة الفرنسية، وكثرةُ المطالعة، وهو كثيرُ السؤال، أعانته على ذلك الذاكرةُ القوية؛ فهو إذا حضر لقاءً، أو التقى بأحدٍ، أو سمع كلمةً... لن ينساها أبدا؛
وهذا المكان يشهد (أي صالون الدكتور في الأبيار) كان يجلس من هنا الشيخ عدون، ومن هنا الشيخ حمو فخار، ومن هنا الشيخ إبراهيم القرادي... ونحن طور تأسيس التراث... والتراث كانت من تأسيس هؤلاء رحمهم الله؛ نعم، لقد دعوتُ أنا للتراث فاستجاب المشايخ رحمهم الله، بكل طواعية وبكل تواضع، وحملوا الهمَّ، وشاركوا في حمل العبء،
ولقد جمع بين هؤلاء المشايخ أنهم من طينة أصيلة، لا خلفيات لهم، هم من طبيعة واحدة؛ والحق أنهم جميعا غُمط حقهم بعد وفاتهم؛ وكثير مما خلفوا من تراث لا يزال رهين الرفوف...
شهادته في الشيخ حمو فخار رحمه الله تعالى:
"الشيخ حمو فخار "عميد الأدباء" في وادي ميزاب بلا منازع؛ وأقول إلى اليوم: إنه لم يأت أحدٌ يخلفه في قامته ومقامه؛ وذلك لقوَّة شخصيته، ولأدبه الذي استقاه من مصادر ذهبيَّة، في العصر الذهبي للأدب الإسلامي؛ وقد تكوَّن تكوينًا عميقًا، وطبَّق ما عمل في حياته الدعويَّة والعمليَّة؛ وهو متميز عن جميع المشايخ من هذه الناحية؛
وما أذكره عنه أنه يحبُّ الاطلاع، ولا يتكبَّر عن المعرفة، متواضعٌ جمُّ التواضع؛ جمع بين الناحية الأدبية والناحية الاجتماعية، ولقد سميته "أديبَ وادي ميزاب"، لأنه حين يكتب يكتب بعمقٍ، فهو أديبٌ بحقٍّ؛ وكذلك هو صاحب فكاهة ونكتة ونباهة؛
حوار مسجل عن الشيخ حمو فخار:
قال الدكتور:
"ولقد سجلوا معي حوارا عن الشيخ حمو فخار؛ وقد دام التصوير أكثر من نصف ساعةٍ، في شهاداتي عن الشيخ حمو فخار؛ والمصور كان صلاح الدين، من مؤسسة أعلام الجزائر".
فضل الدكتور ناصر عليَّ:
قلتُ للدكتور: "فضلك عليَّ عظيمٌ، وأنت بمثابة الوالد والمعلّم والمربي بالنسبة لي، ولا أقول هذا بالكلماتِ فقط، ولكني أعتقده وأعملُ وفقه ولا أدعي أني بلغتُ المراد، أسأل الله أن يثبتني على ذلك".
فقال الدكتور:
"وفَّقك الله وأعانك، وإن شاء الله لا نتوقَّع منك إلاَّ خيرًا، ومن سُمعتك وحِلمك وثقافتك، ونحن نفخرُ أن يكون من أبنائنا وتلامذتنا أمثالَك، ودومًا ندعو لكم بالخير، ونتمنَّى أن يثبتكم الله تعالى على الصواب"
"ندعو لك بالخير، فأنت ولدٌ من ذرية طيبةٍ، ومجتمع صالحٍ؛ مثقَّفٌ واعٍ، وهذه شهادتي عليك؛ ندعو لك بالسلامة، ندعو لك بالتوفيق، والتوفيقُ من عند الله سبحانه وتعالى...
المرء عليه أن يجتهد ويستشير، ولا يجوز للمرءِ أن يتكبر عن الاستشارة؛ يقولون: رجلٌ رجلٌ، ورجلٌ نصف رجلٍ، ورجلٌ لا رجلاً؛ والرجلُ الرجلُ هو الذي له شخصيةٌ ورأيٌ وهو مع ذلك يستشير من هو أهل أن يُستشار".
هذه من آخر وصايا الدكتور ناصر رحمه الله؛ ولنا عودة إلى وصايا أخرى، وردت في مراسلاته، أو حوتها بعض اللقاءات به؛ فهو نبع لا ينضب، وعين لا تغيض، ونهر جار هدار لا يجف...
محمد بن موسى باباعمي
30 صفر 1447ه/24 أوت 2025م
------------
ملاحظة: لولا الأمانة العلمية لما نقلتُ ما جاء في وصاياه من شهادات عليَّ؛ وأنا أعتقد أني دون ذلك بكثير؛ وإنما هو حسن ظن الوالد بولده، والمعلم بتمليذه؛ وإن كان من فضل فهو له وليس لي منه شيء... غفر الله لي تقصيري وقصوري... آمين.
